أحياء نرجمهم وأموات نمدحهم...

لا يوجد ردود
User offline. Last seen 5 سنة 49 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 28/02/2011

حين يكون أحدهم حياً يتنفس فأننا لا نهتم به.. لا نزوره.. لا نكلمه ولا نكترث لأمره... لم نفكر يوماً بأن نجلس بجانبه ومحبتنا نشاركه.. لم نرقص ونحتفل معه ولو للحظات ولكن عند الممات... بعد الممات نتذكره حياً وكأننا لم نعلم أنه كان حياً. الآن مات.. الآن نبكي ونتذكر ما فات.. ليس قبل هذا. نتذكر الموت لا الحياة ونستذكر الحياة بعد أن يحل الأجل ونحيا أموات من المهد إلى اللحد...

في يوم من الأيام توفى عدو من ألد أعداء فولتير.. فأسرع أحدهم لإخباره بالنبأ السعيد قائلاً: لقد مات عدوك ا...للدود. فجأة حلت الصدمة ورحلت النقمة وأجاب فولتير: سأشتاق إليه كثيراً وبدأ بالبكاء وهو يقول: كان رجلاً عظيماً.. ذكاؤه حاداً.. حياته جميلة وخسارته لا تعوض. لم يصدق ناقل الخبر نفسه حين سمع الجواب.
وهذا هو الحال مع الأصحاب والأحباب.. عداوات وخلافات بين الأصحاب والأهل والأحباب.. شتائم وسِباب وحين يرحل أحدهم عن الدنيا تدمع العين ويتحسر القلب ويصبح الراحل عظيماً رائعاً وتبدأ مآثره بالإعلان عن نفسها.. نندم ونشعر بالحسرة لأننا شتمناه أو خاصمناه. فقط حين يرحل الناس نكرمهم ونحترمهم ونبجلهم وبالأوسمة نقلدهم. لكن أحياء... أحياء لا قيمة لهم ولا لعملهم أو لإبداعهم... أحياء نحن لا نراهم... أحياء نرجمهم وأموات نمدحهم.

توفى رجل بائس في يوم من الأيام فذهبت زوجته إلى الكاهن وسألته كم يحتاج من المال ليقول في زوجها عذب الكلام.. ليتغنى بمآثره وبما قام به من أعمال. أجابها بأن لا حصر ولا عد لما لديه من أقوال وكما أن لكل مقام مقال فلكل مقال سعر محدد من المال. طلب منها مئتي دينار. أجابته المرأة بأن المبلغ كبير وأن تدبيره سيكون أمر عسير فهل من مقال يحتاج مبلغاً أقل من هذا بكثير.. فأجابها بمقال صغير سعره مئة دينار لكن مع هذا المقال لن يكون المدح والثناء على زوجها بالأمر المثير. فطلبت منه مبلغاً أقل فأجابها بمقال سعره عشر دينارات ونبهها إلى أن الثناء والمديح لن يجدا مكانهما في المقال.. سيكتفي بقول الحقيقة دون تزيين وإبداع من وحي الخيال.

حين يموت الإنسان نبدأ بسَرد الأكاذيب الجميلة والمآثر العليلة حتى يبدو الأمر وكأن الجميع إلى الجنة وراحة النفس ذاهبين. الجميع بِمَن فيهم السياسيين....
لا بد أننا نهتم بالموت على حساب الحياة. نحن أمة تخشى الموت وتخافه.. تخشاه وتفكر فيه لدرجة العبادة حتى أصبح الموت رمزاً للدين والشهادة.