Dr. Sozdar mîdî : دراســــــــات في التاريخ الكُردي القــــــــديم

( الحلقة 32 )
مقدّمات الغزو المغولي لكُردستان
ضوء على المغول وجنكيزخان:
آسيا الوسطى منطقة تبلغ مساحتها حوالي ستة ملايين كيلو متر مربع، تحدّها من الجنوب جبال هيمالايا، ومن الشمال جبال ألتاي، ومن الشرق جبال كنجان وكوكونور، ومن الغرب جبال تيان شيان، ومن الجنوب الغربي هضبة بامير، وتتخلّلها سهوب وصحارى وجبال وهضاب، وهي تمتدّ الآن من جمهورية تُركمانستان المحاذية لبحر قَزوين غرباً إلى جمهورية منغوليا ضمناً شرقاً( ).
هذه الجغرافيا الشاسعة هي الموطن الأمّ للأقوام التورانية، وأبرزها (المغول، والتتار، والترك)، وبينها مشترَكات إثنية ولغوية وثقافية، وكانت الأقوام الآرية الشرقية تجاور التورانيين من الغرب، وكان التورانيون يحاولون التمدّد مع شبكة طريق الحرير غرباً داخل آريانا، للوصول إلى غربي آسيا، ومنها إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط، لكن كان الآريون- وخاصة أسلاف الكُرد والفرس- يتصدّون لهم ويردّونهم على أعقابهم، واحتفظ الكتاب الزرادشتي المقدّس (أڤستا)، وملحمة (شاهنامه) للفِردوسي، بآثار ذلك الصراع. وقُتل الملك الفارسي كورش الثاني، الذي قضى على مملكة ميديا، وهو يغزو بلاد توران سنة (529 ق. م)( ).

والحقيقة أن التورانيين لم يتمكّنوا من احتلال غربي آسيا، والوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، إلا بعد أن قضى العرب المسلمون على الدولة الساسانية التي كانت تحكم ميزوپوتاميا وآريانا الكبرى (من كُردستان غرباً إلى أفغانستان شرقاً)، وسيطروا على تلك المنطقة بمجملها، وكان الترك السَّلاجقة هم الموجة التورانية الأولى التي غزت غربي آسيا، ثمّ تلاهم الترك الخُوارِزميون، بسبب الصراع بين الخليفة العبّاسي الناصر والسلطان خُوارِزم شاه، وقد سبق الحديث عن ذلك.
وكان الدين الغالب على المجتمع التوراني هو الشامانية Shamanism المؤسّسة على اعتبار (السماء) معبوداً أعلى وخالقَ كل الكون، وكان الشامان (الكاهن) يشرف على الطقوس والشعائر، متّبعاً بعض أنواع السحر والتواصل مع السماء حسب اعتقاد الشامانيين، وكان الطابع الغالب على نظام المغول السياسي والاجتماعي هو النظام القبلي، والاتحادات القبلية، وأحياناً كان الاتحاد القبلي يحظى بقائد موهوب، يجمع شمل القبائل، ويقودها لغزو المناطق المجاورة( ).
وفي النصف الثاني من القرن (12 م)، برز في منغوليا زعيم قَبَلي يُدعى تِيمُوجين (تِيمُوشِين) عاش بين (حوالي 1155 أو 1162 – 1227م)، واتصف بالقوة البدنية والذكاء والدهاء والصلابة والشراسة والبطش والطموح، ومنذ شبابه لقي تيموجين التأييد والرعاية من كاهن شاماني كان يتجوّل في الصحارى والجبال شتاءً وهو عريان حافٍ، ويقول: "كلّمني الله وقال لي: إن الأرض بأَسْرها قد أعطيتها لتيموجين وولده وسمُيته جنكيزخان [=حاكم العالم]"، وكان جنكيزخان يرجع إلى قوله ولا يعدل عن رأيه( ).

(صورة تقريبية لجنكيزخان)
وافتتح جنكيزخان مشروعه التوسعي بإخضاع القبائل التورانية الأخرى لسلطته، ووحّدها تحت قيادته، ثم سنّ القوانين المنظِّمة لحياة المجتمع المغولي في جميع المجالات، مستعيناً بـالـقُورلْتاي (المجلس القَبلي الأعلى)، وجمعها في كتاب (ياسا)، وكان المغول يسترشدون به كما يسترشد المسلمون بالقرآن. ثم غزا جنكيزخان الصين في جنوبي منغوليا، واحتلّ تقريباً نصفها الشمالي، ثم توسّع في الغزو، فاحتل جنوبي البلاد التي سُمّيت بعدئذ (روسيا)، وتطلّع للتوجه نحو آريانا وغربي آسيا، حيث الممالك الغنية بالثروات( ).
وبعد أن سيطر جنكيزخان على شبكة طريق الحرير التجاري في الشرق، اقتضت الضرورة الاستراتيجية أن يسيطر عليها في غربي آسيا أيضاً؛ كي يصبح طريق الحرير كله تحت سيطرته، ويتحكّم في أهمّ مفاصل الاقتصاد العالمي، وانتهز فرصة الصراع بين الخليفة العبّاسي الناصر لدين الله، والسلطان خُوارِزم شاه، واستعانة الخليفة به ضد خصمه، لتحقيق مشروعه التوسّعي.
الغزو المغولي لغربي آسيا:
كان جَنْگِيْزخان قد أرسل تجّاراً من مملكته إلى مملكة السلطان خُوارِزْم شاه، فدخل التجار المغول ببضاعتهم مدينةَ أُوتْرار الواقعة على الحدود بين مملكة المغول والمملكة الخُوارِزمية، وكان خُوارِزم شاه مغروراً بقوة مملكته، ويتضايق من قوة ونفوذ مملكة المغول المجاورة له، فطمع في أموال التجار، متّهماً إيّاهم بأنهم جواسيس، وأمر واليه هناك - وكان خالَه- بقتل التجار المغول، وسلْب ما معهم من فضّة وذهب وفراء ثمين، فقتل الوالي التجارَ، وقبض ثرواتهم وأرسلها إلى خُوارِزم شاه، فأسرع ببيعها لتجّار بُخارَى وسَمَرْقَنْد، وقبض أثمانها( ).
غضب جَنگيزخان بسبب ما حلّ بالتجار المغول، وطلب من خُوارِزم شاه تسليمه والي أُوتْرار لمعاقبته، فرفض خُوارِزم شاه ذلك، فأعلن جَنگيزخان الحرب عليه، وعبر بجحافله نهر سَيْحون، واقتحم بلاد خُوارِزم شاه عنوة، واحتلّ بُخارى سنة (616 هـ) ثم احتلّ سَمَرْقَنْد سنة (617 هـ). وفرّ خُوارِزم شاه غرباً من بلد إلى آخر، حتى وصل إلى هَمَذان (آمدان/أگباتانا عاصمة مملكة ميديا سابقاً في كُردستان الشرقية)، وعاد منها إلى مازَنْدَران ( في شمالي إيران حالياً)، ثم توجّه إلى قلعة (آبْ سُكون) في بحر قَزْوين، وتوفّي هناك سنة (617 هـ). وكان المغول يتتبّعون أثره، فوصلوا في مطاردتهم له إلى هَمَذان وأراضي كُردستان المقسَّمة الآن بين العراق وإيران، إلاّ أنّ بردها أجبرهم على الانتقال إلى أذربيجان( ).
وهكذا أصبحت كُردستان مسرحاً للصراع بين المغول وخُوارِزم شاه، واستمر الأمر على ذلك في عهد جلال الدين بن خُوارزم شاه الذي تصدّى للمغول بعد فرار والده، وبعد أن خاض عدداً من المعارك الناجحة ضدّهم في شمالي الهند، فرّ من أمامهم إلى إيران، ثم استولى على جنوبي كُردستان (يسمّى في المصادر العربية: عراق العجم)، وراح يغزو بلدان غربي آسيا، ويحتل البلادَ الواقعة تحت نفوذ الخليفة العبّاسي، وانتشر جندُه حتى بلغوا أطراف بغداد والبصرة، وافتتحوا دَقُوقا (جنوبي كركوك) عَنْوة، وأنسَوا السكانَ هناك ما فعله المغول من قتل ونهب وتخريب، لكثرة ما قاموا به من بطش وتنكيل وما مارسوه من نهب وسلب( ).
وفي سنة (625 هـ)، وفي طريق تراجعه هرباً من المغول، حاصر جلال الدين خُوارِزم شاه مدينةَ خِلاط في شمالي كُردستان، وارتكب فيها كثيراً من الفظائع والمجازر، ثم إنه "تَعدّى خِلاط إلى صحراء مُوش وجبل جُور، ونهبَ الجميع، وسَبَى الحريم، واسترقَّ الأولاد[= اتّخذهم عبيداً]، وقتل الرجالَ، وخرّب القرى، وعاد إلى بلاده"( ). والمقصود مقرّه في أَذَربيجان.
وفي سنة (626 هـ) هاجم جلال الدين خُوارِزم شاه كُردستان ثانية، فحاصر مدينة خِـلاط واحتلها عَنْوة؛ بعد أن استبسل أهلها في الدفاع عنها، قال ابن الأثير يصف بشاعة أفعال الخوارزميين: "وخرّبوا خِلاط، وأكثروا القتلَ فيها، ومَن سَلِم هَرب من البلاد، وسَبَوا الحريم، واسترقّوا الأولاد، وباعوا الجميع، فتمزّقوا كلَّ مُمَزَّق، وتفرّقوا [الخُوارزميون] في البلاد، ونهبوا الأموال، وجرى على أهلها ما لم يَسمع بمثله أحد"( ).
وجدير بالذكر أنّ السلطان جلال الدين خُوارِزم شاه، حينما كان يهرب من المغول غرباً، اتّخذ أذربيجان مركزاً لقيادته، لكنّ ذلك لم يحمه من المغول، فتوجّه إلى كُردستان بحثاً عن الملاذ الآمن، واستنجد بأمراء ديار بكر والجزيرة (ملوك بني أيوب)، فلما وصل إلى مدينة آمَد لحق به المغول، وهزموه هناك هزيمة نكراء، فلجأ إلى إحدى قرى الكُرد في جبال مَيّافارقين (فارقِين)، وعرّف كبيرَ القرية بنفسه، فآواه وأمّنه، وشرع يُعِدّ له العُدّة للعودة به إلى بلاده سالماً، غير أنّ كُردياً آخر عرفه، فقتله ثأراً لمقتل أخيه على أيدي الخُوارِزميين، ولِما اقترفه جلال الدين وجنوده بحق الكُرد من بطش وسفك للدماء( ).
ومع أن السلطان جلال الدين- باعتراف كبار المؤرخين القدماء- كان معروفاً بالبطش وسفك الدماء وانتهاك الحرمات، وخاصة في كُردستان، بسبب مقاومة الكُرد له كما هي عادتهم مع المحتلين؛ تجاهل بعضُ المؤرخين وكتّاب السِّيَر التاريخية، من أتباع الإسلام السياسي، هذه الحقائق، وقدّموا جلال الدين إلى القرّاء على أنه قدّيس ومجاهد عظيم، وصّوروا الكُردي الذي قتله بأنه جِلف متوحّش، جنى بقسوة على سلطان مسلم عظيم الشأن( ).
ويُفهم من الطريقة التي تناول بها أولئك المؤرخون والكُتّاب حادثة مقتل جلال الدين في كُردستان، أن حرمة الكُردي وغير الكُردي مستباحة لكل غاز ومحتل، ما دام يرفع شعار (الجهاد) شكلاً، ويوظّفه لتحقيق أغراضه التوسعية.
ونتناول لاحقاً الغزو المغولي لكُردستان.
الدراسة مقتبسة من كتابنا (تاريخ الكُرد في الحضارة الإسلامية) مع إضافات جديدة
8 – 1 - 2014
المراجع:



ارسل تعليق

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.