Sozdar Mîdî (Dr. E. Xelîl) : سلسلة: نحو مشروع كُردستاني استراتيجي (الحلقة 7) هذه هي مساهماتنا الحضارية في العهود الإسلامية!

بعد انتصار العرب، سنة (636 م)، على الدولتين الساسانية والبيزنطية، أصبح وطننا كُردستان تابعاً لدولة الخلافة، وظل حتى أوائل القرن العشرين تابعاً للدول التي حكمت باسم الإسلام، ورغم سياسات الإفقار والتجهيل والقهر والصهر، كانت جينات (حضارة گُوزانا) المتأصّلة في ثقافتنا وشخصيتنا تنشط مع كل فرصة مناسبة، وتدفع أجدادنا إلى المساهمة في مختلف مجالات الحضارة، وفيما يلي بعض النماذج.

<!--pagebreak-->

في المجالات السياسية والإدارية والعسكرية: 
نذكر في هذه المجالات الأمثلة التالية: 
ــ أبو مُسلم الخُراساني: كان للكُرد دور مهمّ في الإطاحة بالدولة الأُمَوية سنة (750 م)، وإيصال العبّاسيين إلى الخلافة، ومن هؤلاء الكُرد القائد أبو مسلم الخراساني، قال الذَّهَبي: " الأميرُ، صاحبُ الدعوة [الثورة العباسية]، وهازمُ جيوش الدولة الأُمَوية، والقائمُ بإنشاء الدولة العبّاسية، كان من أكبر الملوك في الإسلام، كان ذا شأنٍ عجيب ونَبَأٍ غريب، مِن رجل يذهب على حمار بإكاف [كالبَرْدَع للفرس] من الشام حتى يدخل خُراسان، ثم يَمْلِكُ خُراسان بعد تسعة أعوام، ويعودُ بكتائب أمثال الجبال، ويَقْلِبُ دولةً، ويُقيم دولةً أخرى"( ).
ــ أسرة البرامكة: البرامكة من قبيلة زَرْزاري الكُردية حسبما أكّد حفيدُهم المؤرّخ ابن خَلِّكان( ). وكان خالد بن بَرْمَك مشاركاً لأبي مُسلم الخُراساني في إقامة الدولة العباسية، وصار وزيراً للخليفة العباسي الأول أبي العبّاس السَّفّاح، وللخليفة الثاني أبي جعفر المنصور، واتخذ الخليفةُ المَهْدي يحيى بن خالد مربّياً لابنه هارون الرشيد، ويحيى هو الذي أوصل هارونَ إلى الخلافة مخاطراً بروحه، فعيّنه هارون وزيراً له، وعيّن الفَضْلَ بن يحيى حاكماً على النصف الشرقي للدولة (من بغداد إلى خُراسان)، وعيّن جعفرَ بن يحيى حاكماً على النصف الغربي (من بغداد إلى تونس)، واتصف البرامكة بثقافة واسعة، وبالبراعة الإدارية، وشجّعوا حركة الترجمة، ومنحوا الجوائز الثمينة للأدباء والشعراء والعلماء والفقهاء والموسيقيين، فازدهرت العلوم والآداب والفنون، ولجهودهم دور كبير في صناعة (العصر العبّاسي الذهبي)( ).
ــ الدولة الدُّوسْتِكِية: دولة كُردية حَكمت بين (982 – 1086م)، وأشهر ملوكها نَصْرُ الدولة أحمد بن مروان، إنه مارس سياسة السلام بدل الحروب، وكسب احترام الدول الكبرى في عصره (الدولة العباسية، والدولة البيزنطية، والدولة الفاطمية)، ونَعِمتْ كُردستان بالأمن والرخاء الاقتصادي والثقافي، واهتمّ بالمشاريع العمرانية كالقصور والجسور وقنوات المياه. قال الفارِقي: "وقصده الناسُ من كلّ جانب، وحَصَل كهفاً [صار مَلاذاً] لمن التجأ إليه"( ). وقال ابن الأثير: "وكان مَقصَداً للعلماء من سائر الأفاق، ... وقَصَـدَه الشعراء"( ). وقال ابن كَثِير: "وكانت بلادُه آمَنَ البلادِ وأطيبَها وأكثرَها عدلاً"( ). ورعايةُ هذا الملك شملت الطيور أيضاً، فقد بلغه أنّها تجوع شتاءً لكثرة الثلوج، فأمر بنثر الحبوب لها، فكانت الطيور في ضيافته طوال الشتاء( ).
ــ الدولة الأيوبية: حَكمتْ بين (1171- 1250م)، ولا تخفى جهودها السياسية والإدارية والعسكرية، لحماية الشرق الأوسط من الغزو الفرنجي، لكن للملوك الأيوبيين جهود حضارية أخرى (تعمير، تعليم، صحة، اقتصاد)، إنهم شجّعوا العلماء على البحث، ووفّروا لهم المال الكافي والمسكن المناسب، كي يتـفرّغوا للعلم، وزوّدوا المساجد والمدارس بالمكتبات العامرة، وبنوا المشافي والتُّرَع، وخفّفوا الضرائب عن الشعب( ).
وزار الرحّالة ابن جُبَيْر الأندلسي مصر في عهد صلاح الدين الأيوبي، فقال في وصف الإسكندرية: "ومن مَناقب هذا البلد ومَفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه: المدارسُ والمَحارسُ الموضوعة فيه لأهل الطِّب والتعبّـد، يَفِدون إليها من الأقطـار النائية، فيَلقى كلُّ واحد منهم مسكناً يأوي إليه، ومُدرِّساً يُعلّمه الفـنَّ الذي يريد تَعَلُّمَه، وإجراءً يقوم به [راتباً يكفيه] في جميع أحواله، واتّسع اعتناءُ السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين، حتى أمر بتعيين حـمّامات يستحمّون فيها متى احتاجوا إلى ذلك، ونَصَب لهم مارِسْتاناً [مشفًى] لعلاج مَن مَرِض منهم، ووَكَّلَ بهم أطبّاءَ يتفقّدون أحوالهم، وتحت أيديهـم خُـدّامٌ يأمرونهم بالنظر في مصالحهم" ( ). (انظر صورة صلاح الدين الأيوبي، وصورة قلعته في القاهرة).

في المجالات الثقافية: 

ليس ثمّة مجال من مجالات الدين، والتاريخ، والجغرافيا، والهندسة، والكيمياء، والفلك، والفلسفة، والطبّ، والهندسة، والأدب، والشعر، والموسيقى، إلا ولأسلافنا فيه نصيب وافر، مع أن ثلاثيّ الجهل والفقر والقهر كان سائداً في كُردستان. وبمجرد أن كانت الحياة تزدهر في إحدى مدن الكُرد، أو كانت أسرٌ كُردية تهاجر إلى المدن الكبرى (بغداد، حلب، دمشق، القاهرة، الإسكندرية، إستانبول، إلخ)، كان الكُردي يستوعب منتَجات الحضارة، ويجيد التعامل معها، ويساهم في تطويرها.
وقائمة أعلامنا في مجال الثقافة طويلة جداً، وبحاجة إلى مؤلفات كثيرة لاستيفائها، وقد ذكرنا شواهد كثيرة في كتاب "عباقرة كُردستان في القيادة والسياسة"، وفي "تاريخ الكُرد في العهود الإسلامية"، وفي "سِيَر أعلام الكُرد في التراث العربي: اللغويون، الأدباء، الموسيقيون"، وتوجد شواهد أكثر في "مشاهير الكُرد وكُردستان في العهد الإسلامي" للمرحوم محمد أمين زكي بَگ، وفي "الموسوعة الكبرى لمشاهير الكُرد عبر التاريخ" للصديق الدكتور محمد علي الصُّوَيرَكي (من كُرد الأردنّ). 
ولو تفحّصنا أسماء المشاهير في إيران والعراق وتركيا وسوريا ولبنان والأردن ومصر، خلال القرن العشرين، لوجدنا فيهم كثيرين من ذوي الأصول الكُردية، منهم المفكرون، والعلماء، والفقهاء، والمؤرخون، واللغويون، والشعراء، وكتّاب القصة، والساسة، والعسكريون، والاقتصاديون، والموسيقيون، والممثلون، ومُخرجو الأفلام.
والمثير للانتباه أن أوّل مَن دعا إلى الإصلاح الديني في الشرق الأوسط هو الكُردي السوري عبد الرحمن الكواكبي، والكُردي المصري الشيخ محمد عبدُه. وأوّل مَن دعا إلى تحرير المرأة وتعليمها هو الكُردي المصري القاضي قاسم أمين، والأديبة الكُردية المصرية عائشة التَّيْمورية، والشاعر الكُردي العراقي جميل صِدْقي الزَّهاوي. (من اليمن إلى اليسار: الكواكبي، محمد عبده، قاسم أمين).
 

ومن سنين دار الحديث مع مستعرب قوموي سوري (إ. م) حول هذا الموضوع، فكان رأيه أن الكُرد أقلّية في سوريا، والأقليات تنزع إلى الإبداع لتؤكد وجودها أمام الأكثرية. وغاب عنه أن الموضوع أكبر ممّا قال، فثمة أقليات أخرى في إيران والعراق وتركيا وسوريا ومصر- لا نذكرها احتراماً- فلماذا لم تدفعها (عُقدة الأقلية!) إلى إنتاج الروّاد في مختلف مجالات الحضارة كما فعل الكُرد؟
الحقيقة أن جينات الحضارة المتأصّلة في الشخصية الكُردية منذ عهد (حضارة گُوزانا)، هي التي تؤهّل الكُردي- حيثما كان- لأن يتفاعل مع مفاهيم الحضارة ومكوّناتها بعقل منفتح، ويساهم فيها ويبدع كلما سنحت له الفرصة. وحينما تقام دولة كُردستان المستقلة، وتحظى بنُخَب قيادية مخلصة ومثقفة، يقومون بالدور القيادي الحضاري الذي قام به أسلافنا الـ (هُوزان= الحكماء) في إدارة شؤون مملكة ميديا، ستكون دولتنا حينئذ في صفّ الدول الأكثر تحضّراً في العالَم.
ومهما يكن فلا بدّ من تحرير كُردستان!
sozdarmidi@outlook.com
4 – 4 – 2014
المراجع: