جان كورد : قراءة جديدة لبؤرة الحريق في المنطقة

2014-06-13

هذه الخريطة من وكالة الأنباء الألمانية ترينا بوضوح مدى خطورة طموح حركة "الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام" المعروفة باسم داعش، والخطورة تكمن في أنها تعمل للوصول إلى العاصمة العراقية بغداد، وهذا ما سيهز أمن واستقرار المنطقة كلها، ويعني أن المشروع الأمريكي بخصوص العراق قد انزلق بصورة دراماتيكية إلى القبر،
وهذا ما لن تقبله الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها على صعيد العالم كله، شاء أوباما أم لم يشأ، كما أن إيران لن تقبل بإزالة النظام الحاكم في بغداد، هذا النظام الذي يأتمر بأمر الملالي الحاكمين في طهران، وينفذ ما تطلبه من إيران، لدرجة أن العراق خارج المنطقة التي يسيطر عليها الآن، وخارج المنطقة الكوردية، ليست إلا مزرعة خاصة للقوى الأمنية الإيرانية.
 
هذه الخريطة توضّح لنا أن سعة انتشار قوات داعش في العراق أكبر من انتشار قواته في سوريا، إلا أن التنظيم لا يخفي أنه لا يعترف بالحدود الدولية بين الدولتين الجارتين، بمعنى أن معاهدة سايكس – بيكو لعام 1916 صارت فعلياً في خبر كان.
 
الولايات المتحدة ووراءها الاتحاد الأوروبي لا يقبلان بتغيير الحدود الدولية، ونرى كم أشغلتهما مشكلة جزيرة القرم التي فصلها الروس عن أوكرانيا، وكيف أظهرا رد فعل قوي جداً، بدأ بالعقوبات الاقتصادية ضد روسيا وبعض العراقيل الدبلوماسية، ولكن في حال تطابق ذلك التغيير مع مصالحهما الاقتصادية والاستراتيجية المشتركة. فإنهما سيجدان التغيير إيجابياً وسيجدان لذلك مبررات أخلاقية وإنسانية وحقوقية... المشكلة التي تواجه الولايات المتحدة ليست خروقات هذا وذاك لمعاهدة سايكس – بيكو، فهي أولاً لم تكن طرفاً في عقدها، ولكن المشكلة هي أن القائم بهذا الخرق الآن تنظيم اسمه في قائمة المنظمات الإرهابية الخطيرة، وليس لأمريكا مصلحة مباشرة في قيام دولة "إسلامية متطرفة" مؤيدة للعدو الأول الذي هو"القاعدة" اليوم. ولكن كيف ستتصرف الولايات المتحدة حيال هذا التقدم المفاجئ للمتطرفين في منطقة الشرق الأوسط الحساسة لقربها من منابع البترول أولاً ولخطورة استفحال الأمور ثانياً؟
 
الرئيس الأمريكي مصمم على رفض نداءات التدخل في ساحات الحروب الأهلية والحروب الإقليمية، وقد سئمت غالبية الشعب الأمريكي رؤية جثامين شبابها تعود من مختلف أنحاء العالم كل آن. ويجدر بالذكر أن أوباما كان ضد غزو جورج دبليو بوش للعراق عام 2003 أيضاً، إلا أن الأمريكيين المعارضين لسياساته يتهمونه بعدم اكتراثه بما يجري خارج الولايات المتحدة، ولذلك لن يسمحوا له بالنوم الهادىء في وقتٍ يتقدم بوتين الروسي، كما جرى في سوريا وأوكرانيا. وتتقدم المنظمات المتطرفة وتقوى أيضاً، وكأنه أدخل سياسة الولايات المتحدة في مستشفى حتى انتهاء مدة حكمه في البيت الأبيض... ويتساءل بعضهم: هل أوباما عميل إيراني كونه شيعي المذهب؟
 
وبسبب الضغوط الشديدة من قبل الكونغرس والإعلام، واتهامات كل من السفير الأمريكي السابق، روبرت فورد، ووزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، للرئيس أوباما، بأنه هو الذي رفض مساعدة السوريين بشدة للتصدي الحاسم لنظام الأسد المجرم، وكلاهما من حزبه الديموقراطي، مما ساعد الأسد لارتكاب مجازر يومية ضد شعبه، إضافة إلى الإنجازات التي أحرزها الروس، سواءً في سوريا أو في القرم، وتوسّع بؤرة الحريق في الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة مضطرة لأن تجد لها حلفاء في المنطقة، يساعدونها في سوريا والعراق، ويتدخلون عسكرياً بالنيابة عنها ولكن تحت إشرافها ووفق السيناريو الذي تكتبه الأجهزة الأمنية الأمريكية...
 
وفي المقدمة تأتي تركيا وإيران، والأولى من حلفائها في حلف الناتو أما الثانية فهي الصديق المأمول مستقبلاً، وذلك لصد التقدم الذي تحرزه المنظمات السلفية الإرهابية. وهو يستعين في دروسه من معلم السياسة الخارجية الكبير هنري كيسنجر، الذي استعان بسائر دول جنوب شرقي آسيا وضربها بعضها ببعض أثناء حرب فييتنام.
 
تركيا التي كانت حتى وقتٍ قريب، ولربما الآن أيضاً، تضع ميزانية رمزية لولاية الموصل، وكانت حتى صعود نجم رجب طيب أردوغان تخوض حرباً ضد الكورد على مستويات وصعد مختلفة، في محاولةٍ يائسةٍ منها لإعادة العملاق الكوردي إلى القمقم، وكانت ضد إعادة كركوك إلى إقليم جنوب كوردستان، والتي تعاني الآن من مشاكل عديدة، بسبب موقفها حيال ما يجري في سوريا وبسبب لجوء أعدادٍ كبيرة من السوريين إليها، تعلم تماماً الآن أنها باقترابها من الكورد تخفف من وطأة مشاكلها الداخلية عن طريق حصولها على الفوائد التي تجنيها من شركاتها العاملة في الإقليم، والتي تنالها من بيع البترول الكوردي وشحنه عبر أراضيها إلى ميناء جيهان على البحر الأبيض المتوسط، إلا أنها لن تضع قواتها في خدمة الولايات المتحدة دون حصولها على فوائد مباشرة من أي عملية تدخل في العراق وسوريا، ودون إرضاء إيران التي تنافسها مالياً وعسكرياً واقتصادياً منذ عهد الصفويين على السيادة في المثلث الواقع بين طهران وأنقرة وبغداد.
 
بالنسبة لإيران، فإنها لأسباب آيديولوجية متفقة مع "الشيطان الأكبر!!!" على أمرين هامين:
 
- عدم السماح للمنظمات السنية المتطرفة، ومنها داعش وجبهة النصرة بالاستيلاء على الحكم في دمشق وبغداد لأن هذا يمس جوهر فلسفتها الطائفية ومصالحها الاقتصادية واستراتيجيتها العسكرية و"أحلامها التوسعية".
 
- التعاون المتزايد في المجال الاقتصادي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، بهدف اقناع إسرائيل بعدم الانتقال إلى استخدام السلاح ضد مفاعلات إيران النووية، ولإلغاء العقوبات التي تكبّل الاقتصاد الإيراني ولإفساح المجال أمامها لتوجيه ضربات سياسية قوية للوهابية في المنطقة، من أجل "حفظ التوازن الإقليمي!".
 
وهنا يبقى الحديث ولو باختصار شديد ضرورياً عن دور الكورد وحكومة المالكي بصدد ارتفاع ألسنة اللهب في العراق الذي طمح يوماً إلى أن يكون جديداً، ديموقراطياً وفيدرالياً...
 
الكورد الذين عانوا من استبداد الأنظمة المتتابعة في العراق، وثاروا لسنين طويلة وقدموا التضحيات الجسام لن يقبلوا بأن يعيدهم نظام أو زعيم أو دولة أو تنظيم متطرف إلى المربع الأوّل، بعد أن أثبتوا جدارتهم في إدارة أنفسهم وأنجزوا كثيراً من العمران والخدمات في اقليمهم "جنوب كوردستان"، ولذا فإنهم تعاملوا بحذر مع الحكومات المختلفة التي توالت على حكم العراق منذ سقوط صدام حسين في عام 2003، وهذا الحذر سببه سياسة غمط حقوق الكورد التي ينص عليها الدستور العراقي ذاته، ومعاملة الإقليم الكوردي معاملة سيئة من ناحية صرف الأموال المخصصة له والصلاحيات التي يتمتّع بها دستورياً كإقليم "فيدرالي"، وخاضوا معارك دبلوماسية وسياسية عديدة في بغداد وعلى الصعيدي الإقليمي والدولي لشرح مواقفهم والمطالبة بحقوقهم والسعي من أجل استعادة الأراضي المغتصبة من كوردستان في ظل نظام البعث العنصري البائد، فجاءت هذه الطفرة التي قامت بها حركة داعش في المناطق السنية كفرصة كبيرة لفرض أنفسهم عسكرياً على الساحة وأخذ ما هو حق لهم بعد "هروب" الجيش العراقي النظامي من كثيرٍ من المواقع له في كركوك والمناطق الأخرى المحتلة من كوردستان. ولكنهم في الوقت ذاته غير عازمين على خوض حربٍ بالوكالة عن المالكي الطائفي والرافض لمنح الحقوق الدستورية لهم، وتكرار محاولاته تهديد الكورد باستخدام القوة حيالهم. أما إذا طالبت أمريكا الكورد بالدخول في هذا الصراع على أساس أنها "حرب دولية ضد الإرهاب!"، فإن الكورد سيقعون تحت وطأة ضغوط مختلفة من جانب الإدارة الأمريكية، إلاّ أنهم يدركون مدى سلبية الانجرار إلى هكذا مستنقع تحاول الدول الكبرى انقاذ أنفسها منه. وقد تكون القصة كلها مؤامرة إقليمية أو دولية لمنع الكورد من إعلان دولتهم المستقلة في جنوب كوردستان وتصدير بترولهم بأنفسهم.
 
أما المالكي، فلا أعتقد أنه يمارس تكتيكاً باستخدام داعش، كما نسمع كل يوم، فهذه الانتصارات الواسعة لداعش أفقدته كل مصداقية، ونزعت الخوف الذي كان يثيره بقواته الكبيرة في قلوب معارضيه، وليس لديه رأسمال سياسي يحل به المشكلة التي تفاقمت بسبب سياسته الطائشة في المناطق السنية من العراق، كما ليس له القدرة على استرداد ما أخذه داعش وحلفاء داعش من عسكريين بعثيين متمرسين، ولذا ليس له إلا مخرجان:
 
-أن يقدّم استقالته ويلجأ إلى إيران أو سواها ويترك المشاكل العراقية لمن يليه في الحكم.
 
-أن يتفق مع الكورد وقوى المعارضة السياسية السنية على تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، شيعية وسنية وكوردية، بحيث يتوافق الحال مع الواقع على الأرض كما هو فعلاً الآن، وبذلك يضمن بقاءه رئيس وزراء للدولة الشيعية سنواتٍ عديدة.
 
إن مصالح الدول الكبرى والأخطار التي نجمت عن الحرب السورية والتوغل الدراماتيكي لداعش ستتفتق عن مرحلة جديدة من التقاطعات السياسية والتشنجات لم تشهد المنطقة سبيلاً لها، ما دام أوباما اختار النوم حالياً.