كركوك.. لعبة النفط والمصالح

 ﭽلنگ عمر
 
                 عضو جمعية الاقتصاديين الكُرد- سوريا
 
في 28 حزيران 1914 أي قبل قرن من الآن اغتال طالب صربي ولي عهد النمسا
وقرينته عندما كانا في زيارة إلى سراييفو، هذا الحدث وما افضى إليه من
ردود أفعال وتداعيات اعتبر حينها السبب المباشر لنشوب الحرب العالمية
الأولى بين بريطانيا وحلفاءها وألمانيا ومحورها والتي راح ضحيتها ثمانية
ملايين قتيل،
حيث كان يسود الاعتقاد في بادئ الأمر بأن الحرب لن تدوم
طويلاً، إلا أن مصدر الطاقة الجديد "البترول" كان قد غير من هدف وطبيعة
الحروب من حيث الرغبة في الهيمنة على منابع هذا المصدر الجديد للطاقة
الذي أتاح معدات حربية وأساطيل بحرية بات من يمتلكها سيداً على العالم.
الحرب بين القوتين العُظمتين اعتُبر صدىً لما كان يجري منذ سنوات في
الشرق الأوسط، فالصراع والتنافس القائم بين دولة فارس الشيعية
والإمبراطورية العثمانية السنية كان يأخذ منحاً اقتصادياُ إضافة
للاختلافات المذهبية القائمة، ففي الوقت الذي كان المهندسون الألمان
يقومون بعمليات المسح لمد سكة الحديد برلين- بغداد، وقعوا على مناطق يطفح
منها النفط حول مدينة الموصل، فأخبروا حكومة السلطان العثماني الذي كلف
رجل الأعمال الأرمني الخبير بشؤون النفط (كالوستا زكي كولبنكيان) بالتوسع
في الحفر والتنقيب عن النفط؛ حيث تطور الأمر لاحقاً إلى تأسيس شركة النفط
التركية (TPC) التي كانت تمول عملياتها عبر المصرف الألماني (Deutsche
Bank) الذي ورث حقوق الامتياز الخاصة بشركة سكة الحديد الألمانية، وجرى
التوقيع على الاتفاقية الخاصة بحق الامتياز الخاص بحقول نفط الموصل في 28
حزيران 1914، حيث امتلك السيد (كولبنكيان) نسبة 15% من أسهم هذه الشركة
إلا أنه اجبر على التنازل عن نسبة 10% للحكومة البريطانية لتبقى له حصة
5% لذا فقد سمي في الأدبيات النفطية بـ(Mister 5 percent)، وبالتزامن مع
ذلك كلفت حكومة الشاه في إيران الجنرال (أنطوان كتابجي) بالاتصال مع
الحكومة البريطانية للتنقيب عن النفط في إيران (بالتحديد في السفوح
الشرقية لسلسلة جبال زاغروس)، وبالفعل انبرى المغامر (وليم دي آركي)
للمهمة بدعم وتشجيع من قبل لورد البحر البريطاني ووزير المستعمرات
(ونستون تشرشل) الذي كان مولعاً بفكرة السيطرة على منابع النفط المكتشف
حديثاً في فارس والشرق عموماً، وذلك للتخلص من التبعية للنفط الأمريكي
كذلك لقطع الطريق على الطموحات الروسية في المنطقة، ومن ثم كانت شركة
البترول الإنكليزية- الفارسية التي أصبحت لاحقاً عملاق صناعة النفط
(British Petroleum).
مهما يكن من أمر وبعيداً عن التفاصيل، فإن الثروة المكتشفة وما آلت إليه
الحرب من انتصار لدول الحلفاء تركت أثرها في مجمل منطقة الشرق الأوسط
الذي بات مسرحاً لنشوء تحالفات كان النفط العامل الأساسي في تحديد
ملامحها، ففرنسا وبريطانيا وقبل أن تنتهي الحرب اتفقا على تقاسم مناطق
النفوذ في الشرق الأوسط أو (الأدنى) كما كان يسمى حينها، من خلال التوقيع
على اتفاقية سايكس- بيكو 1916 التي وضعت ولاية الموصل الغنية بالنفط تحت
الوصاية الفرنسية ضمن مناطق نفوذها في لبنان وسوريا الحالية، وفي عام
1920 وقعت فرنسا وبريطانيا اتفاق سان ريمو حول تقاسم مناطق النفوذ حيث
تنازلت فرنسا بموجبه عن الموصل لبريطانيا؛ وفي الواقع لم يكن هذا الاتفاق
سوى اتفاقاً آخر على توزيع الثروة البترولية في مجمل شرق المتوسط، وخير
دليل على ذلك هو استثناء بلاد فارس من الاتفاقية، وذلك لأن امتياز الشركة
البريطانية (BP) ظل ساري المفعول هناك، على عكس مناطق تركة الدولة
العثمانية حليفة ألمانيا المهزومتين في الحرب، فالامتيازات الألمانية جرى
تحويل ملكيتها للحلفاء، فحصة دويتشه بنك استولت عليها الحكومة البريطانية
وشركة النفط التركية تحولت إلى شركة النفط العراقية التي توزعت أسهم
ملكيتها بين فرنسا وبريطانيا مع بقاء نسبة 5% للسيد (كولبنكيان) الذي
تحول بولائه للبريطانيين.
جدير بالذكر أنه في هذه الأثناء بدأ يظهر لاعب جديد على خط التنافس على
مناطق النفط؛ ألا وهو الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت راغبة في
قطف ثمار الغنائم من أملاك الدولة العثمانية المنهارة، حيث دخلت شركاتها
النفطية في مساومات مع البريطانيين، بحيث تمخضت لقاءات المتفاوضين عن
حصول الولايات المتحدة على امتيازات النفط في العربية السعودية،
وبريطانيا في محميات الخليج والعراق أما فرنسا فقد كانت حصتها في سوريا
وبالتحديد في المنطقة الكردية في الجزيرة لكنها لم تقم بالتنقيب لأسباب
اقتصادية بحتة.
المهم في الأمر هو أن مصالح الحلفاء أنتجت كيانات سياسية هجينة في شرق
المتوسط لعل أبرزها هو العراق، ففي الجنوب (ولاية البصرة) على ضفاف شط
العرب هناك من يسمون بعرب الأهوار الذين يرون أن طهران الشيعية أقرب
إليهم من بغداد السنية، وفي الشمال (ولاية الموصل) هناك الكرد الذين
أُهملت مطالبهم في حق تقرير المصير كما أقرته معاهدة سيفر للكرد القاطنين
ضمن الدولة العثمانية وتم إلحاقهم قسراً بالدولة العراقية.
جدير بالذكر أنه ووفقا للوثائق العثمانية والبريطانية لاحقاً فإن الإشارة
إلى كركوك (شهرزور) كانت تتم ضمن سياق الحديث عن جنوبي كردستان حيث كانت
تقسيمات ولاية الموصل تتألف من ثلاث مقاطعات (متصرفيات) كما يلي:
1-      متصرفية الموصل: مركزها الموصل ويتبع لها أقضية الموصل، دهوك، زاخو،
زيبار، عقرة وسنجار (شنكال).
2-      متصرفية شهرزور: مركزها كركوك ويتبع لها أقضية كركوك، أربيل (هولير)،
رانيا، رواندوز، كويه وكفري.
3-      متصرفية السليمانية.
كذلك في مؤتمر القاهرة الذي انعقد في أذار 1921 أشار (السير بيرسي كوكس)
المندوب السامي البريطاني في العراق إلى أن مناطق كردستان الجنوبية (ذكرت
هكذا كمصطلح في مقررات المؤتمر) هي عبارة عن: "المنطقة التي يؤلف الكرد
أكثرية سكانها وهي مقاطعتا كركوك والسليمانية مع أصقاع معينة تمتد إلى
الشمال من الموصل".
وعودة لموضوع النفط فقد راح (كولبنكيان) وبدعم من الحكومة البريطانية
ينقب عن النفط في هضبة مترامية الأطراف بالقرب من مدينة كركوك، وفي تشرين
الأول 1927 تم اكتشاف ثاني أكبر حقل نفطي في الشرق الأوسط باحتياطي يبلغ
16 مليار برميل من النفط، وهو ما يمثل 12% من احتياطي النفط العراقي
(ثاني أكبر مصدر للنفط في منظمة أوبك).
ومن حينها أصبحت قضية نفط كركوك ركناً أساسياً في لعبة النفط الدولية،
وهو ما أسال لعاب القوميين العرب والأتراك على حدٍ سواء للهيمنة على هذه
المنطقة الكردستانية، التي تعرضت لحملات من التقتيل والتهجير لتغيير
ديمغرافيتها أبان حكم المقبور صدام حسين، أما الدولة التركية المحتلة
لشمال كردستان فلم تخف أطماعها في الموصل وكركوك طيلة تسعين عاماً
المنصرمة ولم تلبث تتدخل في هذا الشأن، ففي كل مرة كان يتم فيها تحرير
كركوك من قبل بشمركه جنوبي كردستان كانت تمارس الضغوط حتى ينسحبوا منها،
وهو ما حدث في عام 1993 عقب انتفاضة آذار 1991 والتي استطاع الكرد فيها
أن يستعيدوا كركوك إلى الحضن الكردستاني، إلا أن تهديدات تركيا للحزبين
الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني باجتياح جنوبي كردستان
أجبرتهم على الانسحاب من كركوك، كذلك في 2003 بعيد سقوط صدام والغزو
الأمريكي للعراق ونتيجة للضغوط الأمريكية والتركية أيضاً اضطر الكرد
للانسحاب من كركوك بعد أن كانوا قد حرروها، حيث تم تضمين مادة في الدستور
العراقي تعالج هذه القضية، إلا أن قضية كركوك بقيت معلقة.
اليوم وبعد أن قامت العصابات الإرهابية من داعش وبقايا البعثيين باحتلال
الموصل، ولم تخفي نيتها باحتلال كركوك التي باتت تحت حماية البشمركه،
كذلك تهديدات المجاميع التكفيرية في غربي كردستان، فإنه تلوح في الأفق
بوادر تقسيمات جديدة للمنطقة بأسرها، وخاصة مع اشتداد حدة الانقسامات
المذهبية (السنية-الشيعية)، لذا فإن الاستحقاق حالياً يتمثل في تضافر
جهود الكرد بمختلف تياراتهم وتوجهاتهم السياسية للحفاظ على المكتسبات
المتحققة والدفاع عن مصالحهم وثروات أرضهم، والعمل لتشكيل جبهة كردستانية
موحدة لمواجهة الضغوط التي قد تنشأ من الدول الإقليمية لاسيما تركيا
وإيران، حتى لا يصبح الكرد مرة أخرى ضحية انقساماتهم على مذبح المصالح
الدولية.
 
 
البريد الالكتروني:
kak.suri2006@gmail.com