(Dr. Ehmed Xelîl) دراســــات في ا لتاريخ الكُردي القـــديم ( الحلقة 48 ) الدولة الدُّوسْتِكِيّة الكُردية

(3) - إنجازات حضارية.. ومواقف إنسانية
إنجازات حضارية:
اهتمّ الملك نَصْر الدولة بإقامة المشاريع العمرانية في بلاده، منها بناء مدينة النَّصْرية على ضفة نهر باطْمان، وصرف اهتمامه إلى بناء
المساجد والجسور وقنوات المياه والتحصينات الدفاعية، وخاصةً في المناطق المتاخمة للحدود البيزنطية، وأمر ببناء قصر ملكي فخم في
العاصمة ميّافارقين، يدلّ على أبّهـة المُلك، وحشد له أبرع المهندسين ورجال الفن المعماري، وزيّن جدرانه وسقوفه بالذهب، وعمل فيه ما لا
نظير له، وزوّده بوسائل الراحة والعيش الرغيد، واشتمل القصر على قاعات للاجتماعات والاحتفالات، وأجرى إليه قناة الماء من رأس العين،
وعمل فيه البرك والحمّام( ).
ولما ذاعت شهرة الملك نصر الدولة وازدهار بلاده، وتناقلت الألسن أخبار عدالته وكرمه، أقبل عدد كبير من الشعراء على بلاطه، وتغنّوا
بأمجاد الدولة الدُّوستكية، ومدحوا نصر الدولة بالقصائد الرائعة، لينالوا من هباته وجوائزه؛ ومنها القصيدة التي قال فيها أبو الحسن علي بن
محمد التِّهامي: 
إنْ قال: لا، فهْي آلاءٌ مُضاعَفةٌ      وإن يقلْ نَعَماً أفضتْ إلى نِعَـمِ
وكان لنصر الدولة شعراء يلازمون بلاطه، منهم ابن الظَّريف الفارِقي (نسبةً إلى فارقين)، وابن السَّوادي، وابن الفَطِيري، والشاعر الأمير حسين بن داود البَشْنَوي، والشاعر المَنازي (نسبةً إلى مَنازْكرد)، ولم يكن الشعراء وحدهم المعجبون بنصر الدولة وعهده الزاهر، بل شاطرهم العلماء وأصحاب الفن الشعورَ ذاته، قال ابن الأثير يصفه: "وكان مَقصَداً للعلماء من سائر الأفاق، وكَثُروا ببلاده... وقصـده الشعراء، وأكثروا مدحه، وأجزل جوائزهم"( ).
ولم يكن الملك نصر الدولة محبّاً للحروب، بل كان حريصاً على الأرواح من الهلاك، وعلى البلاد من الخراب، لذا اختار منهجاً سلمياً في علاقات دولته بالدول المجاورة، وحلّ المشاكل عن طريق التفاوض والتفاهم، قال ابن كَثَير (ت 774هـ) في ذلك: " وكان كثيرَ المُهادنة للملوك، إذا قصده عدوٌّ أرسل إليه بمقدار ما يصالحه به، فيرجع عنه"( ). وقال ابن الجَوْزي (ت 597هـ): " وكان إذا قصده عـدوّ يقول: كم يَلزمُني من النَّفَقة على قتال هذا؟ فإذا قالوا: خمسون ألفاً. بعث بهذا المقدار، أو ما يقع عليه الاتفاق، وقال: ادفعوا هذا العدوّ"( ).
أمّا على صعيد السياسة الداخلية فشهد المؤرخون لنصر الدولة بنشر العدل بين الرعية، وبالعطف على الشعب، فهذا ابن كَثِير يصف انتشار الأمن والعدل في ربوع الدولة الدوستكية قائلاً: " وكانت بلادُه آمَنَ البلاد وأطيبَها وأكثرَها عدلاً"( ). وقال ابن الأَثير يشيد بسيرة نصر الدولة في رعيته: " وسيرتُه في رعيّته أحسنُ سيرة"( ). وقال الفارِقي يصف ابتعاد نصر الدولة في حكمه عن الطغيان: "وعَظُم شأنُ نصر الدولة، وكَبُر أمرُه، وتقرّرت مملكته، وفَعَل الخير، وعَدَل في الناس،… وفَعَل من الخير ما لم يفعله أحد من بيته وأهله"( ).
وبتحقيق العدل والأمن وحُسن المعاملة مع الرعيّة، تحقّق الازدهار الاقتصادي، فأصبح شمالي كُردستان واحة وارفة الظلال، يقصدها التجّار والصُّنّاع وأهل العلم؛ وهذا ما أكّده الفارقي بقوله: " وانعمرتْ مَيّافارِقين أيّامَ نصر الدولة، وقصدها الناس والتجّار وجماعةٌ من كلّ الأطراف، واستغنى الناسُ في أيّامه، وكانت أحسنَ الأيام ودولتُه غيرُ الدُّوَل"( ).
مواقف إنسـانية:
اشتهرت الدولة الدُّوستكية في عهد الملك نصر الدولة بالعطف على الغرباء، وأصبحت ملاذاً آمناً لعدد غير قليل من اللاجئين السياسيين في ذلك العصر، بغضّ النظر عن الدين والمذهب والقومية، وفيهم الملكُ والأمير والوزير، فكان نصر الدولة يرحّب بهم، ويعطف عليهم، ويبالغ في إكرامهم، ويوفّر لهم العيش اللائق بمكانتهم، فقد لجأ إليه -على سبيل المثال- الملكُ العزيز البُوَيْهي، ووزير الدولة الفاطمية أبو القاسم المغربي الشِّيعي، والوزير ابن جَهِير الثَّعْلبي الموصلي، وابن خان التركي، قال الفارِقي في ذلك: " وقصده الناسُ من كلّ جانب، وحصل كهفاً [ملاذاً] لمن التجأ إليه"( ).
وفي سنة (450هـ) خرج قائد تركي يدعى البَساسِيري (قُتل سنة 451هـ) على الخليفة العبّاسي القائم بأمر الله، وكان البَساسيري من زعماء الأتراك ومن مماليك الملك بهـاء الدولة البُوَيْهي، وبايع البَساسيري الخليفةَ الفاطمي المُستنصِر بالله صاحب مصر، فهرب الخليفة القائمُ من بغداد إلى الحَدِيثة، وضاقت الدنيا بأسرته، فلم تجد زوجته (أمُّ وليّ العهد) الملاذَ الآمن إلاّ في كنف الملك نصر الدولة، قال الفارقي: "وخرجت السيّدةُ ومعها أبو العبّاس محمد بن القائم- وهو الذَّخيرة أبو المُقتَدى- فقصدت السيّدةُ مَيّافارِقين ومعها الذَّخيرة صغيراً، وخرج نصرُ الدولة إلى لقائهم، فأنزلهم واحترمهم وأضافهم، وأنفذهم إلى آمَد، وأنزلهم في القصر، وتقدّم بما يحتاجون إليه".( )
والطريف أنّ رعاية الملك نصر الدولة لم تقتصر على الناس، بل شملت الحيوانات أيضاً، وبكيفية لم نعهدها من سائر الملوك، فقد بلغه أنّ الطيور تجوع شتاءً لكثرة الثلج، وأنّ الناس يصطادونها حينما تنزل في القرى بسبب حاجتها إلى الحب، فأمر بفتح مخازن الحبوب، وإلقاءِ ما يكفيها من الغَلاّت طوال الشتاء، فكانت الطيور في ضيافته طوال الشتاء مدّة عمره( ).
ومن تتبّع سيرة الملوك الدُّوسْتِكيين يجد أنهم كانوا ينزعون إلى رغد العيش والترف، وذكر الفارِقي أنه كان لنصر الدولة ثلاثمئة وستّون جارية حَظايا، وكانت نوبة إحداهن لا تصل في السنة إلاّ مرة واحدة، وكان في كلّ ليلة له عروسٌ جديدة، وكان له من المغنّيات والرقّاصات وأصحاب سائر الملاهي ما لم يكن لسواه من سائر الملوك والسلاطين، وكان كلما سمع بجارية مَليحة أو مغنّية مَليحة طلب شراءها، وبالغ في مشتراها، ووَزَن أضعافَ قيمتها( ). 
وقال الفارقي ملخِّصاً النعيم الذي عاشه الملك نصر الدولة، مع مقارنته بغيره من الملوك: " واستقرّ نصر الدولة في المُلك، ومَلك ما لا يَملك أحدٌ مثله، وتنعّم بما لا يتنعّم أحد غيره"( ). ووصف الفارقي عهده السعيد قائلاً: " وكانت أيّامه كالأعياد"( ). وقال ابن الأثير في هذا الصدد: " وتَنعّم تنعّماً لم يُسمَع بمثله عن أحد من أهل زمانه"( ).
توضيح: هذه الدراسة جزء من كتابنا (تاريخ الكُرد في العهود الإسلامية) مع التعديل والإضافة.
sozdarmidi@outlook.com
7 – 7 - 2014
المراجع:

[1] - الفارقي: تاريخ الفارقي، ص 108 - 110.

[1] - ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/74.

[1] - ابن كَثِير: البداية والنهاية، 12/87.

[1] - ابن الجَوْزي: المُنتظَم في تاريخ الملوك والأمم، 16/70.

[1] - ابن كَثِير: البداية والنهاية، 12/87.

[1] - ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 9/26.

[1] - الفارقي: تاريخ الفارقي، ص110.

[1] - المرجع السابق، ص166.

[1] - المرجع السابق، ص143-145.

[1] - المرجع السابق، ص153-154. ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 10/641.

[1] - ابن كَثير: البداية والنهاية، 12/87.

[1] - الفارقي: تاريخ الفارقي، ص169.

[1] - المرجع السابق، ص143.

[1] - المرجع السابق، ص169.

[1] - ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 10/17.