(Dr. Ehmed Xelîl) دراســــات في ا لتاريخ الكُردي القـــديم

( الحلقة 54 )
الدولة الزَّنْدِية الكُردية في إيران ( 1760 – 1779 م )
الجزء (1)- الزَّنْدِيون: من القبيلة إلى الدولة
الجغرافيا أولاً:
كي نفهم التاريخ فلنبدأ بالجغرافيا، وكي نفهم الأديان فلنبدأ بالجغرافيا، وكي نفهم السياسة والاقتصاد فلنبدأ بالجغرافيا، وكي نفهم القيم والأخلاق فلنبدأ بالجغرافيا، وكي نفهم الآداب والفنون فلنبدأ بالجغرافيا، تلك هي الحقيقة.

ولا نقصد بـ (الجغرافيا) التضاريسَ من جبال ووديان، وسهول وصحارى، وأنهار وبحار فقط، ولا نقصد بها المُناخ من أمطار وثلوج، وحَر وبرد، وخصوبة وجفاف فقط، بل نقصد جميع هذه العناصر وهي في حالة تفاعل مع البشر أفراداً وجماعات، وبعبارة أخرى: نقصد الجغرافيا الجيولوجية والجغرافيا البشرية والجغرافيا السياسية (جيوپوليتيك). 
وعندما نأخذ هذه الحقيقة التاريخية والعلمية بالحُسبان في قراءتنا للأحداث، وفي تحليلنا للأمور صغيرها وكبيرها، نصبح أقدر على فكّ كثير من الطَّلاسم في تاريخ البشر، ونصبح أيضاً أكثر معرفة بالعوامل الحقيقية التي وقفت وراء كثير من الأحداث الكبرى، وليس هذا فحسب، بل نصبح أكثر قدرة على فهم الأحداث الكبرى المعاصرة، ونغدو أقدر على تأسيس المستقبل لأجيالنا القادمة. 
صَفَويّون وعُثمانيّون:
في الحديث عن الدولة الزَّنْدِية، ومؤسِّسها الحاكم الكُردي اللُّرّي محمد كريم خان زند، لا بد من أن نأخذ الجغرافيا بدلالتها الشاملة في الاعتبار، وهذا يقودنا بطبيعة الحال إلى الصراع الآرياني- الطوراني القديم منذ حوالي خمسة آلاف سنة، ويقودنا في الوقت نفسه إلى الصراع في داخل البيت الآري بين الفرس والكُرد، فقد هيمن الفرس الأَخمين على مملكة ميديا سنة (550 ق.م)، لكنهم كانوا بحاجة على الدوام إلى الاستقواء بالجغرافيا الكُردية وبالقوة القتالية الكُردية، للوقوف في وجه الطورانيين المندفعين شرقاً وجنوباً، وفعلوا الأمر نفسه حينما تصدّوا للغزوات العربية الإسلامية؛ ولم يكن الصراع البُوَيْهي- السَّلجوقي، في العصر العبّاسي، إلا شكلاً آخر من أشكال الصراع الآرياني- الطوراني.
ومع بدايات القرن السادس عشر الميلادي، برز الصراع الآرياني- الطوراني في صيغة الصراع الصَّفَوي- العثماني، وقاده من الجانب الفارسي الشاه إسماعيل الصَّفَوي (حكم بين 1501 – 1524 م)، ومن الجانب التركي السلطان سليم الأوّل (حكم بين 1512 - 1520 م)، وكانت كُردستان الجنوبية (إقليم كُردستان- العراق)، في بؤرة الصراع بين الفريقين( ).
وفي سنة (1722 م) أنهى نادِرْ شاه- من قبيلة أَفْشار التركمانية- حكمَ الأسرة الصَّفَوية، لكن معظم الإيرانيين عَدّوه مغتصباً للعرش، يعتزم إزالة المذهب الشّيعي وإعادة المذهب السُّنّي، فاغتاله القادة الشِّيعة سنة (1747 م)، في معسكره بمدينة (فَتْح أَباد) في خَبُوشان، وكان نادر شاه قد جاء إليها بجيشه للقضاء على ثورة للكُرد كانت قد نشبت هناك( ). 
 
(نادر شاه)
إن الزوال السريع لحكم نادر شاه تبعته فوضى عامة في بلاد فارس والقوقاز وكُردستان الشرقية، وأدّى النزاع بين الزعماء القَبَليين على العرش الفارسي إلى نشوب حروب طاحنة بينهم، وفي خضمّ تلك الحروب برزت الجغرافيا الكُردية ثانية، وبرزت معها القوّة القتالية الكُردية الفاعلة، لتترك بصماتها على المسرح السياسي والحضاري في بلاد آريان، وحدث ذلك بقيادة شخصية كُردية بارزة، هو محمد كريم خان زَنْد، ويُعرَف في المراجع اختصاراً باسم (كريم خان زَنْد) ( ). 
فماذا عن قبيلة زند الكُردية؟ ومن هو كريم خان؟
الزَّنْديون وكريم خان:
مرّ أن جذور الأمّة الكُردية تمتد في عُمق التاريخ إلى حوالي خمسة آلاف عام، والشعب الكُردي هو حفيد أسلافه الزاغروس-آريين (إيلامي/عيلامي، غُوتي/جُوتي، لُوللُو، سُوبارتي، كاشُّو، حُوري/مِيتّاني، مَنّاي، خَلْدي/أُورارْتُو، مِيدي، كُرْدوخ)، ونتيجة لتمازج هؤلاء الأسلاف أصبح الشعب الكُردي- بحسب اللهجات- من أربعة فروع رئيسة، هي: كُرْمانْج في الشمال، وسُوران وگُوران في الوسط، ولُرّ وكَلْهُور في الجنوب. 
ويذكر مِهْرداد إيزادي أن قبيلة زَنْد Zand من منطقة دِهْ پاريDeh Pari  في شرقي كُردستان، وهي تنتمي إلى شُعبة (لَكي Laki) من فرع (لُرّ)، وما زال الناطقون بلهجة لَكي الزَّنْدية يقيمون في مناطق مختلفة في جنوبي كُردستان من كِفري Kifri إلى مَلايِر Malayer، ويسمّى فرع (لُرّ) في بعض المصادر (لُور)، والصواب (لُرّ) ( ). 
وجدير بالذكر أن الكرد اللُّرّ في الجزء الكُردستاني الجنوبي الواقع ضمن دولة العراق يُسمّون (فَيْلي)، وهذا الاسم نفسه محرَّف من كلمة مجموعة پَهْلَواني Pahlawâni: تسمّى Pahlawânik أيضاً، وهي تنقسم أيضاً إلى فرعين كبيرين، هما دِمِلي Dimili أو (زازاZâzâ )، وگُوراني Gurâini ( ).
ويقول مهرداد أيزادي: "ومن الواضح أن مصطلَح (پَهْلَواني) نفسه نشأ من (پَهْلَواند) المستمَدّ من (پَهْلَا) Pahla، ومنطقة پَهْلَا تشمل جنوبي كُردستان وشمالي لورستان، ولعلها الموطن الأصلي للغة [الپَهْلَوية]...، وكلمة پَهْلَا ما زالت باقية بشكل محرَّف في اسم القبيلة الكُردية (فَيْلي)، وبالمناسبة ما زالت هذه القبيلة مقيمة في جنوبي كردستان، في منطقة پَهْلَا القديمة( ). 
وقال ياقوت الحموي في كتابه "مُعجم البُلدان": "اللُّرُّ: بالضم وتشديد الراء، وهو جيل من الأكراد في جبال بين أَصْبَهان وخُوزِستان، وتلك النواحي تُعرَف بهم فيقال: بلاد اللُّرّ. ويقال لها: لُرِستان. ويقال لها اللُور أيضاً"( ). وقال الفَيّومي الحَمَوي في كتابه "المصباح المنير": " واللُّورُ جِنْسٌ من الأكْرادِ بِطَرَف خُوزِستانَ بين تُسْتَرَ وأصْبَهان، وأهلُ اللِّسان يَحذِفونَ الواوَ في النُّطق بها"( ).
وكان الزَّنديون يثورون على نادر شاه وعلى العثمانيين، فهاجمهم نادر شاه بقسوة، وقضى على ثورتهم، وأجبر قسماً كبيراً منهم على الهجرة إلى إقليم خُراسان شرقاً، وأسكنهم حوالي مدينة أَبِيوَرْد، ليكونوا في مواجهة التركمان الغزاة القادمين من الشرق والشمال.
وبعد مقتل نادر شاه على أيدي القواد الشيعة، عيّن الزَّنديون المهجَّرون كريم خان قائداً لهم، وكان كريم خان قبل ذلك من قادة جيش نادر شاه القدامى، وكان صاحب خبرة وتجربة في ميادين القتال، فأحسن استغلال الظروف، وعاد بالزَّنديين إلى موطنهم الأصلي (مَلاير) في لُورِستان، يعاونه في ذلك أخوه صادق، وأفلح في ذلك رغم الأخطار التي كانت تحيط بهم، ومنذ ذلك الوقت أصبح كريم خان زعيماً لقبيلة زَنْد عن جدارة. 
 
(كريم خان زَنْد)
وفي عام (1750 م)، ونتيجة لتفاقم الصراع على السلطة في بلاد فارس، أعلن علي مراد خان، زعيم قبائل بَخْتياري ( هي قبيلة كُردية، والأرجح أنها من فرع كَلْهُور)، نفسه وصيّاً على عرش بلاد فارس، وتحالف معه كريم خان، فحاربا معاً الغزاةَ الأفغان، وحقّقا الانتصار عليهم، وكان علي مراد خان ظالماً محبّاً لسفك الدماء، في حين كان كريم خان محبّاً للعدل والإنصاف، لذلك اختلفا، وظهرت الخصومة بينهما، ثم قُتل علي مراد خان. ودخلت بلاد فارس تحت سلطة نفوذ كريم خان، فأمسك بجميع السلطات، وأسّس الدولة الزَّنْدية سنة (1163 هـ = 1750 م).
16 – 9 – 2014
توضيح: هذه الدراسة جزء من كتابنا (تاريخ الكُرد في العهود الإسلامية) مع التعديل والإضافة.