ابراهيم تاتليسس التركي ابن الكردي !!

رشيد فندي

كثر الحديث في الآونة الأخيرة، حول زيارة الفنان ابراهيم تاتليسس الى كردستان العراق، وازداد اكثر نتيجة تصريحه المثير للجدل للصحفيين الكرد في فندق شيراتون اربيل حول أصله ونسبه عندما قال أنه تركي ابن تركي .. وكان الحديث برمّته ينصبّ على التهجم عليه وتوجيه الطعون له ،أثر كلامه المذكور .. ولكنني لم أقرأ شيئا" ولم أسمعه عن الأخطاء الأعلامية الشنيعة التي نرتكبها نحن منذ سنين حيال التعامل مع شخصيات فنية او ثقافية كردية وغير كردية تأتي الى كردستان للزيارة، او نحاول جاهدين من طرفنا لأستقدامهم ورشّ طرق مجيئهم بالزهور وماء الورد !!
أن اخطاءنا الأعلامية بصدد هذا الموضوع ،اكبر بكثير من تصريحه الذي اراد فيه التنصل من اصله الكردي المعروف ،ووجه خطأنا نحن يتمثل في موجة اعلامية عارمة لا مبرر لها تصاحب قدوم اي فنان او مثقف مهما كان اصله وفصله ،ومهما كانت مرتبته في عالم الفن، فلقد قام جهازنا الأعلامي الكردستاني بأستنفار كلّ قوّته وجبروته ،من بثّ مستمر ومنذ أشهر وأسابيع ،وفي الكثير من القنوات الأعلامية ،تنبئ عن زيارة الفنان المذكور الى كردستان ،وكأنما هو كشف جديد بين النجوم المتلألئة للفن الكردي ،لابل قامت بتحديد سعر بطاقات الدخول لحفلاته الغنائية ،وهو سعر مرتفع بالنسبة لأي فنان ،ناهيك عن كونه فنانا" كرديا" او غير كردي ،وتحدثت بعض الصحف الكردية عن اسعار خيالية لمجرد اخذ صور تذكارية معه ،وتراوحت تلك الأسعاروتفاوتت مع درجة القرب منه في الصورة أو نوع الحركة التي يؤديها اثناء اخذ الصورة ،مثل التقبيل او التكاتف او المواجهة او التحدث معه او مدّ الذراع على الكتف !! وما الى ذلك من سفاسف وخفائف وطرائف !!
هذا كله قبل ان نعرف ونفكر بأن تاتليسس هو فنان كردي ولكنه يعيش في دولة لا تعترف حتى الآن بوجود الكرد ،ناهيك عن الأعتراف بحقوقهم القومية او الثقافية على الأقل ،ودون ان نعرف بأن تاتليس هو مليونير في دولة تركيا وله كارتل مالي ضخم ينمو يوميا" على حساب الفن ،وأن هذا الفنان الذي يغني بالتركية ليس مستعدا" للتضحية بملايينه من اجل قول كلمة نسعد بها نحن هنا ..
أنّ علينا ان نفكر بتعقل ،فنعقد مقارنة بسيطة بين تاتليسس وبين فنان كردي آخر من كردستان الشمالية هو ( شفان ) الذي خصص جلّ حياته الفنية للكرد وكردستان واتحف الكرد والعالم بأجمل أغانيه القومية الكردية الشجيّة وحاز على جوائز عالمية لذلك،وكانت أغانيه بلسما" لشفاء جروح آلاف الكرد وترديدا" لآهاتهم وأنّاتهم وغذاء" روحيا" لمئات السجناء الكرد في سجون الطغاة ،حتى ان بعض الكرد ألقوا في غياهب السجون وتعرض البعض منهم للأعدام ،لمجرد أمتلاكه شريطا" لأغاني (شفان) .. نعم علينا ان نقارن بين شفان وبين تاتليس من جهة الأداء الفني والقومي لكل منهما وبين مواقفهما وبين التغطية الأعلامية التي نقوم بها نحن لكل منهما ..
في كل الأحوال علينا ان نكون متوازنين في تعاملنا وادائنا الأعلامي فيجب ان يكون الأهتمام بكل فنان بقدر العطاء الذي قدّمه لشعبه ،وكان علينا ان نعتبر تاتليس فنانا"كبيرا" يأتي من دولة مجاورة لا تعترف بالكرد ولا بالفن الكردي ومعظم أغانيه هي بالتركية وحصل على الملايين، بصوته الجميل الذي يغني الأغاني التركية به ،مع قلة من الأغاني الكردية التي القيت في الحفلات الخاصة !!
ان اي شيء يزيد عن حدّه ينقلب الى ضده، كما يقول المثل العربي ،ولقد تعلمنا نحن معشر التربويين وآمنّا بالمبدأ التربوي الذي يقول عن الأمتحانات بأن الزائد كالناقص،فالطالب الذي يعطي اجابات ناقصة في الأمتحان ،لا يختلف كثيرا" عن الطالب الذي لا يعرف الأجابة الدقيقة للسؤال ، فيجيب عنها اجوبة مبهمة عامة زائدة ،وهذا يعني بأن الطالب الذي اعطى جوابا" ناقصا" لم يدرس بما فيه الكفاية لكي يعرف الجواب الدقيق ،أسوة بالطالب الذي لم يدرس بما فيه الكفاية !! فاعطى اجابات زائدة تفصيلية مبهمة غير دقيقة وغير محددة !!
وكذلك هو حال الأعلام ،فالأهتمام الناقص بموضوع ما لايفي بالغرض المقصود ،وبنفس القدر فأن الأهتمام الزائد يؤدي الى نتائج عكسية غير مرجوّة ..
نعود الى موضوعنا ونقول ,نعم ان تاتليسس هو فنان كردي ابن كردي ،وهو بالأصل من قرية قرب دياربكر ، وكعادة الكراد الذين يخففون أسماء أبنائهم ويختصرون (علي ا وحسن او ابراهيم) الى (علو وحسو وايبو ) ،فكذلك لازال لقب (ايبو) الذي كسبه في قريته يصاحبه حتى الآن ودخل حياته الفنية ..
أن مسألة خروج بعض الكرد عن اصولهم ،هي من شواذ اي مجتمع ، فليس تاتليسس وحده هو الذي فعل ذلك ،فهناك طه ياسين الجزراوي الذي كان ابن شخص كردي يدعى ياسين ، قدم من جزيرة بوتان في كردستان الشمالية في اواسط القرن الماضي وسكن في محلة قرب النبي يونس في مدينة الموصل، وكانت له دكان صغيرة في الخمسينات والستينات يبيع فيها الرقي والبطيخ ،ويقول عنه جيرانه الكرد هناك ،انه بالكاد كان يعرف كلمات من اللغة العربية يستعملها لترويج بضاعته ،ولكن ابنه (طه) الذي انخرط منذ شبابه في صفوف حزب البعث وعلا شأنه فيها ،تنكّر لأصله الكردي وتغير لقبه من طه الجزراوي الى طه ياسين رمضان ،وهو يعتمر الآن العقال والكوفية في قفص الأتهام ،ومن مفارقات القدر ،ان الكرد هم الذين قبضوا عليه بعد أنهيار نظامه ،وتم سوقه الى محكمة يرأسها قاض كردي ،وقيل قديما" انّ لله في خلقه شؤون ..
اريد ان اقول في النهاية ،بأن للأعلام دورا" اساسيا" في تقديم الفنانين والمثقفين، والعلّة تكمن اصلا" في سوء تقديرنا لمكانة ودرجة اي فنان او مثقف ،بحيث نجعل الأمورتخرج عن طورها الأعتيادي ..