بقلم: صبحي درويش
بعض الناس يحبون المتعة ولا يعنيهم لماذا يستمتعون بها وبعضهم تتم متعته بها إذا عرف أسبابها. ولا أظن أنه قد تمت الكتابة بشكل كاف عن دور الضحك و الفكاهة والظرف في السياسة أو في الثقافة أو في الحياة‏. وهناك رأي طريف جدا للكاتب الصيني (لن يوتانج)يقول فيه‏:‏ إذا أرسلت خمسة من أفضل ممارسي الفكاهة في العالم إلي مؤتمر دولي‏، ومنحتهم السلطات المطلقة التي يملكها الحكام المستبدون‏، فإنهم سوف ينقذون العالم‏. لأن الفكاهة تترافق بالضرورة مع الإحساس الطيب والروح المرحة‏، بالإضافة إلي قدرات ذهنية في منتهي الدقة تساعد علي اكتشاف التناقض والسخف والمنطق الرديء. إن الفكاهة تضرب في أعماق جذور الثقافة‏، وتفتح الباب أمام الحوار وبناء ثقافة السلام ، فثقافة السلام روح وريحان وجنة نعيم، وثقافة العنف من مارج من نار، فبأي آلاء ربكما تكذبان؟. لقد اقترح السير (دوجلاس نيوبولد ) ذات مرة في محاضرة له انه قد يكون من اللائق في المؤتمرات الدولية واللقاءات العلمية وغيرها من المناسبات الجادة أن يكون الافتتاح بعرض أحد الأفلام الضاحكة . فهذا الافتتاح في رأيه قادر علي أن يوقظ الإحساس بروح الفكاهة في صدور المشاركين‏،وأن يهيئ المناخ لمعالجة معقولة وسارة للمشكلات الصعبة وكان نيوبولد صديقا للعقاد في فترة وجوده بالخرطوم‏.‏وفي قناعتي أن صفة الإنسانية من أهم الصفات للإنسان المثقف‏‏. وليس مثقفا من لا يتحلي بهذا الخلق.‏ في الواقع هناك علماء ونوابغ كثيرون وأساتذة وكتاب مشهورون ولكن تنقصهم برغم تعليمهم هذه الفضيلة‏، وقد جفت في نفوسهم ينابيع الإنسانية مثل‏:‏ الخيال والتسامح و الفكاهة واللطف والظرف والبساطة ‏.‏و اليوم أصبحت حياة الناس أكثر تعقيدا والفلسفة أكثر كآبة .ولا ثقافة بدون البساطة ولاسيما في الكلام والتفكير والكتابة. فلا شيء مزعج كالإبهام والتعقيد والالتفاف على الواقع بالكلمات في تقليد لأعمال السحرة الذين ينطقون ولا يعبرون ويتكلمون ولا يفهمون والتعقيد هو سبب شقاء الإنسان في الحياة. يقول الفيلسوف الإنجليزي (فرانسيس بيكون) عن المطالعة‏‏:‏ يزدري الأشخاص الماكرون الدراسة‏،ويعجب بها البسطاء‏، أما الحكماء فإنهم يوظفونها‏.‏ ثم يقول بيكون وما أجمل ما يقول‏: لا تقرأ لكي تصدق كل شيء، ولا لكي تملأ الحديث والحوار بما يدل علي معلوماتك الكثيرة والغنية‏،‏ بل اقرأ لكي توازن وتتأمل. يرى عالم النفس (برايان تريسي): إن كل جهاز نتعامل معه له كتاب تعليمات لتشغيله، إلا الإنسان لأنه أعقد من أي جهاز ويتعالى على الآلية، وله قوانينه النوعية الخاصة التي تضبط نشاطه. وأن نسبة الناجحين في الحياة لا تتجاوز خمسة بالمائة من الناس، وأن هناك ستة مؤشرات للنجاح أهمها: (1) (راحة البال)، (2) (تحقيق مستوى عال للطاقة). و(3) (تحقيق علاقات اجتماعية حميمة)، ويضاف إلى ما مر(4) (الكفاية المالية)، و(5) (وجود أهداف ذات قيمة في حياة الإنسان). وأخيرا (6) (الشعور بتحقيق الذات). ومن هنا أحسن (خالص جلبي) صنعا عندما وضع عشر أفكار للتعامل اليومي.واليوم نحن نعرف أن الذكاء ليس عقلا صرفا بل عقل وعاطفة. ومن أجمل ما قرأت لعالم النفس الأمريكي (دانييل كولمان) كتابه القيم عن (الذكاء العاطفي). وبقدر قلة البحث في الضحك وأسبابه قديما هناك إفراط في الكتابة عن الضحك في العصور الحديثة لاسيما بعد نشأة علم الجمال والبحث في التطور ومذهب النشوء. وما الضحك بشيء واحد.وما نضحك لسبب واحد وما نفكر في الضحك على نحو واحد.فالضحك ضحوك عدة إذا صح التعبير ونضحك لأسباب كثيرة.هناك ضحك السرور والرضا، وهناك ضحك السخرية والازدراء، وهناك ضحك المزاح والطرب، وهناك ضحك العجب والإعجاب ،وهناك ضحك العطف والمودة، وهناك ضحك الشماتة والعداوة، وهناك ضحك المفاجأة والدهشة، وهناك ضحك المقرور وضحك المشنوج وضحك السذاجة وضحك البلاهة. ولقد أحصى الفكاهيون والمتندرون من أساليب التعبير الفكاهي :أسلوب القلب والعكس والمقالب والملاحظة اللاذعة واللغز والظن المختلف والنادرة و الكلمة التي تقال وتفهم على معنيين وتكرار الكلمة في مواضعها والنسيان المعهود في العلماء والمعلمين،وأكذوبة نيسان والعثرة اللسانية والغلطة مع حسن النية والغلطة المطبعية وخيبة الحيلة وارتدادها على صاحبها والاقضية السليمانية والمفارقة والصورة الهزلية في الكلام وإتباع الحكمة بحكمة أخرى توافق مقدماتها ولا تخطر في الحسبان، والنصائح المطردة مع القياس الظاهر، والسخرية و فكاهة قبل وبعد.وقديما كان هناك في اليونان فيلسوفان: الفيلسوف الباكي (هيرقليطس) والفيلسوف الضاحك (ديمقريطس).وأما (أفلاطون) فقد ذكر المضحكين والمضحكات عرضا في سياق البحث عن المدينة الفاضلة التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين،يقول أفلاطون إن الإنسان الكريم لايعرف الجد إلا بالهزل وأنه من الحسن أن يشهد مناظر الهزل من العبيد والأجراء المسخرين ولا ينغمس فيها بنفسه.ويرى أن الضحك مرتبط بالجهل.و (أرسطو) اعتبر المضحك ضرب من الدميم أو المشوه.وكلا الفيلسوفين قد تطرق إليه الخطأ من فهم المأساة والملهاة-الكوميديا والتراجيديا- على أنها نوع من التقليد والمحاكاة.وقد وصل أقطاب مذهب التطور والنشوء إلى نتائج متناقضة بعد بحثهم في ظاهرة الضحك والفكاهة. وحسب (الفرد رسل ولاس) فان الضحك وسائر الخصائص الإنسانية لاتفسر بالانتخاب الطبيعي وتطور الأنواع فملكة الفكاهة لا تفسر بالصراع على الحياة وتنازع البقاء.ويرى (داروين) أن الضحك قد يوجد بمعزل عن التفكير كما يلاحظ عند صغار الأطفال والبلهاء الذين يضحكون ليعبروا عن شعور الرضي والراحة دون أن يصحبون ذلك بفكرة أو خاطرة.والأصحاء من البالغين يضحكون لأسباب أخرى.والغرابة المفاجئة مع الشعور بالتفوق هو من أكثر أسباب الضحك عند الكبار الراشدين. إن الإنسان الفقير لن يضحك إن ربح فجأة مالا كثيرا.إلا أن الإنسان إذا طرأت عليه خاطرة غير متوقعة يعبر عن نفسه بالضحك. ونرى كيف يتحول بكاء الأطفال إلى ضحك حين يطرأ لهم طارئ مفاجئ لان الضحك يفيدهم في تصريف الجهد العصبي الذي يشعرون به.وحسب (داروين)إن دغدغة الخيال مماثلة لدغدغة الجسد ويعطي مثالا على ذلك ضحك الأطفال.وكذلك تحدث الدغدغة الفكرية من خاطر غير معهود ولا معروف من قبل ويبدو أن العنصر القوي في تكوين الضحكات يعود إلى عامل طارئ أو منافر يقع في سياق التفكير.وقد أحصى داروين بدقة عوارض الضحك على الوجه والجسم.ويختلف (داروين) عن زميله (الفرد ولاس) حول الملكة الخصوصية عند الإنسان التي يراها صاحبه مزية محدودة ولاتفسر بتنازع البقاء مثل ملكة الفكاهة وملكة الإدراك الرياضي والحس الموسيقي وما إلى ذلك.والفيلسوف الألماني التنويري (كانت) يذهب إلى أن الضحك ينشأ من التوقع الذي ينتهي فجأة بدون جدوى وأما (شوبنهور) فيرى أن الضحك نتيجة للمفاجأة بادراك عدم التناسب بين الشيء المضحك والشيء الذي يخطر على البال أنه يشبهه.وخلاصة آراء الباحثين أن المضحك هو النزول بالجليل فجأة إلى الابتذال والإسفاف. وسبنسر يخالف من يقول بأن الضحك محاولة عضلية للتخلص من شعور حزين أو غير محتمل ويخالف القائلين بأن الضحك يتولد من الشعور المفاجئ بالغبطة والرضي عن النفس وحسب رأيه إن هذا كله قد يحدث ولا يحدث معه الضحك وانه لابد لتمام العوارض جميعا من التحول المفاجئ من سياق إلى سياق في وجهة الشعور.ويقول (سبنسر) إن المؤثرات لها في الإنسان ثلاثة منافذ منفذ الحس، ومنفذ الفكر، ومنفذ الحركة العضلية، وإنها كلها قابلة للتحول من منفذ إلى منفذ سواء بدأت بالتفكير أو بدأت بالحس أو بحركة من العضلات.ويعتبر الفيلسوف الفرنسي المعروف (هنري برجسون) الضحك انه مرتبط بالتطور المنطقي والحاسة الاجتماعية في آن واحد والضحك في رأيه إنساني بكل ماللكلمة من معنى. وكتب (فرويد) في رسالة مسهبة عن النكتة ومدلولاتها الاجتماعية والفنية وزبدة كلامه إن النكتة ضرب من القصد الشعوري والعملي يلجأ إليه الإنسان في المجتمع ليعفي نفسه من أعباء الواجبات الثقيلة ويتحلل من الحرج الذي يوقعه فيه الجد ولوازم العمل وأن النكتة تشبه الأحلام والرؤى.ونستطيع أن نقول بعد مجمل الآراء والتفاسير إن الضحك ينشأ عن مفاجأة تتحول بالفكر والشعور عن مجراه وان الاختلاف بين السخرية والدعابة والفكاهة لايلجئنا إلى البحث عن اختلاف في أنواع الضحك لأنه في جوهره اختلاف بين الضاحكين على حد تعبير المفكر والأديب الموسوعي (العقاد).وقد جاء ذكر الضحك في القرآن والتوراة والإنجيل، ففي القرآن جاءت الإشارة إلى الضحك مرة في قصة إبراهيم ومرة في قصة سليمان عليهما السلام كما ورد الضحك في آيات متفرقة بمعنى السخرية والاستهزاء.فالضحك ملكة إنسانية.ولقد خرج نوابغ الفكاهة في جميع الأمم وعلى مر العصور.والأمم التي لاتملك حرية التعبير والنقد تنفس عن صدورها بالنوادر مثل النوادر القرقوشية التي شاعت في مصر في عهد قره قوش وقد دونت في كتاب (الفاشوش في حكم قراقوش) والمنسوب ل(ابن مماتي) إلا أنها لست كلها من تأليفه وابتكاره.ولو أحصيت الحكايات والنوادر التي يتناقلها المصريون لاحتاجت إلى مجلدات كثيرة من أمثال كتاب الفاشوش عن حكم قره قوش فالمصريون شعب مشهور من قديم الزمن بالقفش والنكت.وهناك مواسم فكاهية تنفس بها الأمم عن صدروها في عهود التحول.والنوادر التي ينسبها الناس لجحا يستحيل أن تكون كلها صادرة عنه وحده لاختلاف الشخصيات التي تصورها ولتباعد البيئات التي تروى عنها حسب رأي العقاد في كتابه جحا الضاحك المضحك.واقترن الضحك بالصحة النفسية ومن لا يضحك فهو فاسد المزاج وليس له علاج.ويروى أن النبي ضحك حتى بدت نواجذه. و من المعلوم اليوم أن للضحك والفكاهة اثر مباشر على أجهزة المناعة وتحسين الحالة النفسية وشحذ قدرة الجسد على مقاومة الأمراض وتحمل الآلام. وللضحك فوائد كبيرة في علاج بعض الأمراض النفسية مثل حالات الاكتئاب أو القلق ويؤكد الأطباء النفسيون أن المرح يعد وسيلة فعالة للتخلص من الضغط العصبي، وسلاح لمواجهة وتجاوز ما يتعرض له الإنسان من إهانة أو مواقف صعبة ومحرجة، ويساعد على تجاوز كل أنواع الألم والمعاناة. فالضحك يفيد الجسم والعقل. ويحقق السعادة والسلام النفسي و. يمنحنا التجدد. وينمي روح المشاركة وروح العمل الجماعي و. يعطي الإنسان الثقة بالنفس. وينمي ملكة الإبداع و.يرفع من روحنا المعنوية.و يرفع من مستوى أداء العقل ومن قدرتنا علي الاحتفاظ بالمعلومات ويقوي الذاكرة ونصبح أكثر وسامة وجمالا.

يروى في الحكايات أن جحا حمل أوزة مشوية إلى الأمير، وغلبه الجوع ورائحة الشواء في الطريق، فأكل إحدى رجليها ثم وضعها بين يدي الأمير، فسأله عن الرجل الناقصة أين ذهبت؟ قال: لم تذهب إلى مكان، وإنما الأوز كله برجل واحدة في هذا البلد، ثم تقدم بالأمير إلى نافذة القصر وأشار إلى سرب من الأوز قائم على قدم واحدة كعادته في وقت الراحة، فدعا الأمير بجندي من حرسه وأمره أن يشد على سرب الأوز بعصاه، وما كاد يفعل حتى أسرع الأوز يعدو هنا وهناك على قدميه.قال الأمير :أرأيت؟ إن أوز هذا البلد أيضا خلق بقدمين ولم يخلق بقدم واحدة !.قال جحا : مهلا أيها الأمير ...لو هجم حارسك على إنسان بهذه العصا، لجرى الإنسان نفسه على أربع.