عذراوات الكرد : رقيق أبيض في أرض السواد

لا يوجد ردود
User offline. Last seen 16 سنة 30 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 07/06/2007

عذراوات الكرد : رقيق أبيض في أرض السواد

سئل الزعيم الكردي الراحل الملا مصطفى البرزاني ذات مرة عن حدود كردستان فأجاب " حيث لحجل " و هي إجابة رمزية تشير إلى أن الكردي شرس في مواجهة " بني جلدته " و مسالم مع الأغيار مثلما هو طائر الحجل الذي يستميت في القتال ضد نوعه و يبدو مسالما في مواجهة الأنواع الأخرى و هذه الطباع الكردية المنكفئة على الذات و الحذرة من الآخر هي التي تفسر ، ربما ، ـ فضلا عن عوامل موضوعية عديدة ـ سبب فشل جميع الثورات التي قامت على أرض كردستان إذ قمعت بعنف و انتهت بالمآسي فلم يجد الأكراد أصدقاء سوى الجبال يلوذون بها من شرور القامعين و هو ما دفع أحد الباحثين إلى وصف كردستان بأنها " بلاد الألف ثورة و الألف حسرة " .

و الأكراد ليسوا دخلاء على الحيز الجغرافي الذي يقطنونه بل إن الدراسات التاريخية و الاكتشافات الأثرية تشير إلى أن وجود الأكراد في المنطقة الجغرافية التي يسكنونها الآن موغل في القدم إذ تذكر هذه الدراسات بان القائد و الفيلسوف اليوناني زنيفون هو أول من أورد اسم بلاد الكرد سنة 402 ق.م بصيغة " كردوخيا " و سمى الأكراد بـ " الكردوخيين " بينما يرى الباحث الروسي مينورسكي أن قدوم الأكراد لكردستان كان حوالي 1000 ق.م و أن الكوتيين الذين كانت بلادهم تقع في منطقة غرب بحيرة(وان ) و شرق نهر دجلة هم أجداد الأكراد الحاليين و هو ما يراه أيضا العلامة الكردي أمين زكي.

و يقول الكاتب السوري منذر الموصلي في دراسة له " أن القبائل الكردية التي توسعت و امتدت من بحيرة أورمية ( قزوين ) حتى بوتان ( إحدى المحافظات التركية ) قامت بتأسيس إمارة كردية في القرن الرابع قبل الميلاد هي إمارة (مكهرت) " و يورد الباحث العراقي التركماني ابراهيم الداقوقي في كتابه (أكراد تركيا ) الصادر عن دار المدى ( دمشق ـ 2003 ) ما يدعم مثل هذا الكلام إذ يقول " الثابت تاريخيا أن الأكراد كانوا يقطنون المنطقة التي سيطرت عليها الدولة الميدية التي ظهرت في القرن السابع قبل الميلاد و التي كانت تمتد من بحر قزوين شمالا حتى الخليج العربي جنوبا وبين بختران في إيران شرقا و نهر قيزيل ايرمق في تركيا غربا " مستنتجا بان "الأكراد ليسوا قوما طارئين على المنطقة و إنما كانوا سكانها منذ أن عرفوا في التاريخ منذ الألف قبل الميلاد " فالأكراد ـ كما يجمع الكثير من المؤرخين ـ أمة مستقلة لها خصائصها القومية و مقوماتها الحضارية و تطلعاتها في بناء مستقبل زاهر و لذلك فإنها ليست بحاجة للانتساب إلى الأقوام القديمة الأخرى و يبلغ عددهم الآن حوالي 30 مليون مع الإشارة إلى أن هذا الرقم يتأرجح وفقا لاعتبارات سياسية عديدة ليس هنا مجال الخوض فيها، فالمغالون الأكراد يقفزون بهذا الرقم إلى اكثر من أربعين مليون في حين أن الباحثين المغالين من القوميات التي تضطهد الأكراد ، كالفرس و الأتراك و العرب ، يهبطون بهذا الرقم إلى ما دون العشرين مليونا .

لكن الثابت تاريخيا أن الأكراد شعب عريق و له تاريخ موغل في القدم بيد أنهم لم يحصلوا،رغم ذلك ، على حقوقهم المشروعة إلى الآن و لم ينعموا بالسلام يوما بل إن التاريخ الكردي حافل بالمرارات والخيبات، إنه تاريخ تراجيدي عمِّد بالدم إلى هذه اللحظة التي حملت فيها الأيام للكردي و على صفحات بعض الصحف ( من بينها الشرق الأوسط ، 2 تموز ـ 2003 ) حسرة جديدة ضمن سلسلة الحسرات و الخيبات إذ كشف النقاب مؤخرا عن وثيقة سرية لجهاز المخابرات العراقي تفيد بقيام هذا الجهاز ببيع فتيات كرديات عراقيات ممن اعتقلن و عوائلهن في " عمليات الأنفال " التي جرت في أواخر الثمانينات وبإرسال بعضهن إلى الملاهي والنوادي الليلية في مصر و هذه الوثيقة موجهة من مديرية مخابرات محافظة التأميم (كركوك) إلى مديرية المخابرات العامة في بغداد برقم 1601 وتاريخ 10/12/1989. و يقول نصها:

" سري وعلى الفور ، إلى مديرية المخابرات العامة، الموضوع : إجراءات . بعد الإيعاز المباشر من لدن القيادة السياسية، وقيامنا بعمليات الأنفال الأولى والثانية والتي تم فيها حجز مجاميع مختلفة من الأشخاص ومن تلك المجاميع مجموعة من الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن بين 14 و29 سنة، وقد قمنا وحسب أوامركم بإرسال مجموعة من تلك الفتيات إلى الملاهي والنوادي الليلية لجمهورية مصر العربية وحسب طلبكم، واليكم طياً قائمة بأسماء تلك الفتيات مع عمر كل واحدة منهن ..للتفضل بالاطلاع مع التقدير".

وضمت القائمة أسماء 18 فتاة كردية من سكان منطقة " كرميان " القريبة من كركوك و أثار الكشف عن هذه الوثيقة موجة غضب عارمة لدى الأوساط الشعبية في كردستان خاصة بعد تعرف عدد من الأكراد الناجين من " عمليات الأنفال السيئة الصيت " على أسماء شقيقاتهم المدرجة في القائمة وطالب ذوو الضحايا من هؤلاء الفتيات الكرديات الزعماءَ الأكراد والمسؤولين في الإدارة الأميركية باعتقال مدير مخابرات كركوك والرائد نزهت التكريتي المسؤول عن هذه الجريمة وتقديمهم للعدالة، والتحرك السريع من أجل كشف مصير الفتيات اللائي تم بيعهن للملاهي المصرية وفق ما جاء في الصحيفة المذكورة.

إن الوثيقة التي تم العثور عليها تنبئ بوجود وثائق أخرى من هذا النوع و تكشف عن العقلية الجهنمية التي كانت تسيّر أزلام النظام العراقي و المسألة هنا لا يمكن تفسيرها سياسيا بل أن ثمة نزعة سادية وجدت في تدنيس المقدس جسرا للانتقام و التشفي فقد وقع الاختيار على فتيات جميلات و قضي الأمر بإرسالهن إلى العاصمة المطلوبة للعمل كراقصات و " ربما كبائعات هوى " و المفارقة أن التسمية التي أطلقت على هذه الأعمال المشينة هي " حملات الأنفال " التي راح ضحيتها 180 ألف كردي دفن أغلبهم أحياء في الصحارى العراقية ( بحسب ما جاء في حوار مع جلال طالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني ) و يبدو أن جلاوزة الحكم قد " رأفوا " بالفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن ـ كما تشير الوثيقة ـ بين 14 و 28 فآثروا اغتيال أرواحهن البريئة فيما الجسد الغض يتمايل عنوة و يتراقص على أنغام الأيديولوجية الصدامية المقيتة في أرض الكنانة.

ليس ثمة شناعة أقسى من هذه الجريمة التي كشفت عنها الوثيقة !. إنه فعل يعجز عن ابتكاره أصحاب اكثر الخيالات خصوبة و غزارة كما إنها جريمة لا يمكن تصنيفها تحت أي بند فقيم البداوة و القبلية تتسامى عن هذا الفعل بل أن الشهامة العربية التي تنظر إلى المرأة بعين العطف و هي مضرب المثل في هذا الصدد ،و لا حاجة بنا إلى القول بان الأديان السماوية بدورها ترفض استعباد الإنسان و كذلك الأيديولوجيا البعثية ، رغم جميع سلبياتها ، تنبذ مثل هذا الفعل ، فبأي مرجعية ،إذن ، يمكن تفسير هذه الجريمة التي اقترفها " الروائي " صدام حسين الذي غاب عن ذهنه المثل العربي القائل " تموت الحرة و لا تأكل بثدييها " ،و الأمثال الكردية التي تمجد المرأة العفيفة كثيرة في هذا المقام و لعل من سولت له نفسه تحويل " الحرة إلى أمة " كان مدركا لمدى القسوة التي ينطوي عليها هذا الفعل الأكثر رهبة من الموت .

يقال بان الأمر الأصعب من الموت هو أن تتمنى الموت فلا تناله وهؤلاء الفتيات الكرديات اللواتي جردن من كرامتهن كن يتمنين ولا شك موتا رحيما يجنبهن الوقوع في شرك المخططات (الإيروتيكية) للبطريركية السياسية ، سيما و إنهن لا ذنب لهن في كل ما كان يحدث فهن قد تعودن أن يعانقن الصباح بابتساماتهن المشرقة في تضاريس كردستان الجميلة و في الأفق المفتوح على المدى الرحب فكيف لهن إذن أن يمارسن طقوس المجون و العهر في علب الليل التي قذفت بهن إليها ألاعيب السياسة و مكائدها لا لذنب سوى إنهن يملكن عيونا جميلة و قواما ممشوقا و جسدا طاهرا تمت استباحته دون أن يتمكن الأب من إنقاذهن كما تروي الأسطورة الإغريقية التي تقول " كانت دافني فتاة جميلة و ابنة إله صغير،إله أحد الأنهار و قد رآها "ابولو" إله الشمس الجبار فأحبها و طاردها محاولا اغتصابها،و قد استنجدت بأبيها فرشها بحفنة من الماء و أحالها إلى شجرة غار تضفر من أغصانها الأكاليل للأبطال .

غير أن وطأة الواقع المرير و صرامته هنا تفوق هشاشة الأسطورة و سلاستها ! فبأي لغة يمكن مواساة هؤلاء الفتيات و قد كن ذات صباح يرشقن الصباح بضحكاتهن الصافية و يقبلن الليالي المقمرات بأحلام خالية من لون الدماء و المجازر و يطرزن عبق الحياة بآمال لا تني تكبر في كنف اليأس و يزرعن الضوء في حلكة الأيام المريرة في انتظار حياة أجمل لكن هذه الحياة الجميلة التي غزلن خيوطها بالآهات و الأماني انطفأت في دهاليز حياة أخرى فصلت على مقاسهن فهن جميلات و يفين بالغرض طالما أنهن مجرد سلع و دمى جميلة و مسلية في عرف من استباح وطنا بكل ما فيه من البشر و الأشجار و الأطيار و المسرات .

و لم يكن الشاعر العراقي سعدي يوسف و هو الذي عانى مرارة المنفى مخطئا حين قال بان القوانين السماوية و الوضعية لم تخترع عقوبات تعادل ما ارتكبه صدام من جرائم و هو قال هذا الكلام قبل أن تكتشف هذه الوثيقة فماذا عساه يقول حين يقرأ بان عذراوات الكرد قد أصبحن " سبايا في هذا الزمن الكحلي " و كأنهن بلا أمهات أو أحبة بلا مشاعر أو عواطف بل محض أنثى مشتهاة ضرب من حولها شراكا من الرغبات و النزوات الطائشة "… يكاد ينكر من رآها / أن الطفولة فجرتها ،ذات يوم بالضياء/ كالجدول الثرثار ـ أو أن الصباح رأى خطاها /في غير هذا الغار تضحك للنسائم والسماء… " كما يقول السياب في قصيدته الطويلة " المومس العمياء " التي تعبر ـ رغم الفارق الزمني و اختلاف السياق ـ عن مأساة هؤلاء الفتيات اللواتي لم يشفع لهن أنهن ذوات عيون شهلاوات جميلات و سليلات شعب قال عنه الجواهري " شعب دعائمه الجماجم و الدم / تتحطم الدنيا و لا يتحطم " مقرونا بعزة نفس و كبرياء لم و لن يدرك صدام و أمثاله دلالتها و معناها.