نقوش التاريخ بين الصوت والصورة (الفلكلور)
بافي جودي
في البداية كانت الكلمة:
إن الاعتماد على الرواية الشفهية كمصدر أساسي للتوثيق والكتابة ( لدى الشعوب التي غاب عنها التدوين . وجزء من تاريخنا كمثال ) موضع جدل لدى أنصار التأسيس والتسلسل ألتأريخي الزمني للأحداث والمجريات ، أصبح يُعتمد عليه شيئاً فشيء وبشكل خاص على الروايات الأكثر تردداً والبالغة درجة المصداقية وتسميتها بالمصادر (المساندة بدافع الدراسة ) و ممارسة النقد للرواية الشفوية في حالات مميزة
ومعالجِة منهجية تقترب إلى درجة الوثوق من الناحية المعرفية التاريخية للمنقولات الشفوية وتصنيف وإخراج المستحق منها وتوثيقها بأن تكون مصدر تاريخي يصح عنه النقل والاعتماد للباحث .
على الرغم من وجود مؤرخين ينكروا الرواية الشفهية وتأصيل دورها مفهومهاً لما في بعضها من نفي غير مقصود للحد الزمني للتاريخ بنقدهم لها لسبب تركيزها ( أي المادة التراثية ) على القيمة الإبداعية للمحتوى الفني والسرد اللغوي. واتهام المعتمدين من المؤرخين والباحثين عليها بتوظيفها لخدمة قضاياهم القومية لإمكانية حدوث التصرف فيها وتبديلها ووضعها في غير مسارها التاريخي. وهم ( أي الرافضون ) من أنصار الاعتماد على التأريخ التسلسلي الزمني لغياب حد الزمن في البعض منها وغلبة طابع المبالغة والأسطورة في معظم روايات المغنين والشعراء الشعبيين .
إلا انه يعتبر الوجه المرح والنقي لمجريات تاريخية تطورت ونمت بإبداع بعيداً عن الدواة والمحبرة .
رغم ذلك يعتبر الإرث الشعبي ( الوجه الآخر للتأريخ )المعروف اصطلاحاً بالتراث المنقول شفهيا( الفلكلور ) من مصادر التعرف على تاريخ ودلالات الحضارة الدالة على رقي الشعوب وبيان دورها في البناء و أحد الجوانب الهامة في حياة الأمم وتاريخها والنفس البشرية المجبولة على الجمال والحب يثير القلوب بروعة أداءه متمثلاً بالفن الناتج من ممارساته الحياتية بعيداً عن التصنع والتكلُّف ،
حدث زمني مارسته الجماهير أو خاطرة مرت بذهن شاعر مبدع خلاّق تلقاها.
الشعراء الشعبيين ورواة الحكايات والوقائع بأسلوب غنائي شعري ملحمي اتسم في اغلب الأحيان بطابع البساطة إلى جانب الدقة والإسهاب والإطالة أو الاختصار وإسباغ لون أسطوري على بعض أجزاءها بدافع إبراز وإظهار قوة الوصف والتعبير أو الولاء لشخصيات الحدث ترجمتها الأوتار والحناجر الى سيمفونية خلدتها للدهر .
امتاز (الرواة الشعبيين) بدخول الحياة العامة من خلال تأليف أغاني للعمال والفلاحين لبعث النشاط فيهم وخلق مادة رددوها أثناء ممارسة عملهم أو جني الحصاد . كذلك في الأعراس والولادة والختان بأغاني تترجم الفرح بها يغرس مفاهيم البناء الأخلاقي في المجتمع.
فالفرح والسرور الحزن والشقاء حالات إنسانية عرفت عدة طرق للتعبير عنها، منها ما هو أسطوري كحكايات ( عه لك وفاتـكـ ) والأقزام والجدات والجان ،
أو من حدث زمني مقيد كتقاليد الأعياد و الأعراس والزواج الولادة والموت الحرب والسلم وغيرها من تغيرات على حياته مستعرضا فيها جوانب الدقة في السرد والجمال اللغوي التعبيري ، تركها ( مؤرخوها تسبح في بحر الزمن )
تراثنا
وقد سجل تاريخ وذاكرة شعبنا الكثير منها، تمايزت بين وضوح وغياب الزمن حتى أصبح بعضها من مميزاته وابرز محطاته في التاريخ وحَدَّاً لما قبل وما بعد
( كـ .. ( برفا كران – الثلج الكبير المؤرخ بين عامي 1912 – 1914 ) ( وطوشا عامودي ) و ( سفر برلك ) والصراع ( المحمودكي العصمانكي المستمر الى هذه اللحظة ) وغيرها من حوادث اعتمد عليها الناس تأريخاً .
و كل جيل له وقع لتاريخه ، إضافة إلى التمايز الثَّري المعبر عن اختلاف تنوع طبيعة الإنسان وسكنه ، رغم التماثل الحاصل فيما بينه، فالتنوع أصل في تاريخ الإنسان وبالتالي في الحضارة التي بناها،
ففي ملحمة قلعة دمدم ( الجبلية ) الشهيرة إبراز للشجاعة والقوة والدهاء السياسي لعدد قليل من المقاتلين الكورد دفاعا عن القلعة وصورة من صور الفداء والدفاع حتى الاستماتة " جبلتهم عليها طريقة معاشهم ومعاناتهم وطبيعتهم الجبلية الوعرة فاكتسب منها إنسانها هذه الصفات ( الخشونة والقوة والدهاء )
و مم وزين ملحمة الملاحم الكوردية ( الحب العذري في ارق حالاته والبعد للفتنة بأبعد خستها ) يُبرز الفن الشعبي ( في الرواية الشعبية لها) العشق والوجد في حب عذري عفوي أسطوري والإشارة إلى فتنة بكو الذي أصبح اسمه متوارثا تتم الاستعارة به حتى صار مثلاً متداولاً .
رسم التاريخ
وتماشياً مع الصوت برزت الصورة بفن الرسم و الزخرفة فعلى جدران المنازل وداخل بيوت العبادة وشواهد القبور وأسلحة المقاتلين من سيوف وخناجر إلى السيور الجلدية التي يخزن فيها الرجال قطع الذخيرة لسلاحه المحمول ساحة أخرى للإبداع والتأريخ المنعتق من الزمن أبدعتها يد الفنان .
و ظهر فن الرسم ( كتابة التاريخ بالألوان ) بشخصيات وأشكال خاصة على القماش كالستائر والمناديل وحمالات الإبر المحشوة بالقطن أو الصوف ( قه ولك ) هذا الفن الشعبي تمارسها النسوة عادة كضروريات معاشيه يطرزن شخصيات حكاية التراث الخيالية باستخدام خامات محليه كخيط الحرير والقماش القطني التي تستمد من الطبيعة مادةً ومن الأسطورة والحوادث روحاً ؛ كرسوم العقرب بوجه الإنسان على الستائر المعروفة في تراثنا باسم ( شاميران )
وأشجار الرمان بثمارها الكبيرة وزهور ( الجلنار )التي تجاوزت بها إبرة مبدعتها أحجام ومقاييس الطبيعة فيها.
كذلك ظهرت براعة النسوة في فنهم هذا بالنقش على اللباس التقليدي حيث المساحة الواسعة للعمل والإتقان فيُزَخْرَفْ الثوب من أعلاه إلى أسفله تترسم خلاله لوحة فائقة الجمال بألوان زاهية براقة من غطاء الرأس ( د سمال) والصدر ( باخِ ل) والخصر (شوحي وإسدال الـ بي شمال عليه ) والأكمام ( الهوجك) ودائرة الذيل بالتطريز وهو المسمى ( خفتان) أو تزخرف هذه الأجزاء بقماش من لون آخر (أسفل الخفتان )تزيدها جمالاً واتصالاً بالطبيعة الساحرة هذه الفنون تكشف عن قدرات ومهارات النسوة اللائي عتقن القطعة ( الرسم التاريخ الشعبي ) من حبس الزمن ورهنه لروح الأسطورة وهنا يصعب تحديد تاريخ البداية لفكرة ظهور القطعة التراثية "
والفنان ( الرسام ) الشعبي يحافظ ( نقش التاريخ ) بذلك الموروث العام لأناملٍ خلدتها الجدران و قطع القماش والمناديل واللباس . لتوصلها إلى الأجيال القادمة نسمات تاريخية صافية غنية "
هذه الفنون المتوارثة إلينا من مئات السنين تعكس جمالاً من التراث والأساطير والذكريات متصلة من جيل إلى آخر أصبحت مادة للمثقفين والمؤلفين المعاصرين اعتمدوا عليها أحياناً بالإشارة إلى تاريخ غاب عنه التدوين والكتابة وبذلك يكون الفن الشعبي جزأً أساسياً للهوية التاريخية للأمة ،
من خلال فننا الشعبي العريق والغني نستطيع أن نتتبع الكثير من جذورنا التاريخية والفنية واستنشاق عبق تراثنا الأصيل التي فقدنا الكثير من روحه .
اعتذار
وما غاب عني أكثر مما دونته وعذري قلة ما بين يديَّ من بحوث وعدم توفر مراجع ، لذلك أرجو أن تكون هذه نقطة بداية للفت نظر الباحث والمختص لإنقاذ زاوية هي في طريق الزوال من الحياة و الذاكرة .
سباس MAS
.....................
I m free