سـحـر الـذاكـرة
الفنان التشكيلي خليل عبدالقادر
من هناك بدأت رحلته، رحلة اللون والعذاب والمتاهة الأبدية، من قرية منسية في الشمال يقولون إنها ُتسمّى "حسي أوسو"! أما هو كان يرعى في مجرّتها أسرار النجوم، وقطعان الغيم، وأحلام الصبايا والنسوة الذاهبات إلى الحصاد والأعراس والمقابر.
في "الصالحية" استقرت أسرته أخيرا في مطلع الستينيّات، ذلك الحيّ الخارج عن القانون، الذي نبت على حواف مدينة "الحسكة" مثل فطر سحري في غفلة من الزمن والحكومة، مجاورا شقيقه في البؤس والوحل "حي العزيزية". الفقر، والانتظار، والخوف، والتحدّي، والأمل، ليست مجرّد مفردات في كتاب مدرسي، إنها محدّدات العيش، وبؤرة الإحساس الأول، في تلك العشوائيات التي تتعايش فيها مختلف الأديان والأعراق واللغات، وتنصهر في بوتقة واحدة مشكّلة نسيجاً متعدّد الألوان والأطياف في خيمة الوطن الواحد. في ظل الحراك السياسي والاجتماعي، والمدّ اليساري والقومي، وما بين "الصالحية" و"العزيزية" والمدينة، والمسجد، والكنيسة، والسينما، والمركز الثقافي، كان "خليل عبد القادر" يبني عالمه الخاص الجميل والمشاكس من الأصدقاء، والطيور، والكتب، والأزهار، والمطر، والتأملات.
وفي لحظة عاقلة أو مجنونة يقلع فيها عن الدراسة ويهب حياته، كل حياته للمساحات البيضاء التي راح يلوّنها بمخيلته وأحاسيسه وأحلامه الصاخبة. كان الرهان صعباً وقاسياً، فما الذي سيفعله فتىً مثله في أرياف المعرفة البعيدة، أو في مدينة تعيش على الأطراف، لا صالة تعرض لوحاته، ولا أحد يقتنيها أو يعيرها التفاتا! ثم ألم تهزم وتغيّب تلك المدينة من قبل ومن بعد كلاّ من "عمر حمدي" و "بشار العيسى" و"فؤاد كمو" و"عبد فكتور" و"عمر حسيب" و"حسن حمدان" و"صبري روفائيل" و"برصوم برصوما" و"زهير حسيب" و"أحمد الأنصاري" وغيرهم ! لا بأس قالها "خليل" ذات مرّة ، وأضاف : «سأبقى هنا حتى تتغيّر النظرة إلى الفنّ، وحتى يتذوّق الناس، عامة الناس، الكتلة والشكل واللون والضوء والظل».
وهكذا كانت البداية: معارض مشتركةوفردية يغلب عليها نزوعه الواقعي الأصيل في التقاط وجوه ومفردات البيئة المحليةوتعبيراتها، أعمال نحتية، نُصُب في الساحات العامة، ندوات ودروس، سهرات صاخبة ونقاشات حادة مع الأصدقاء: عن مفاهيم الواقعية، والانطباعية، والسريالية،والتكعيبية، ثم مشاركته في معرض جماعي "بدمشق"، حيث يكتب عنه الراحل "مصطفىالحلاّج" قائلا: «إنه ارتجالي.. يطوف على أرجاء اللوحة بخفّة الساحر.. خطوطه تشكّلعوالم غاية في الدهشة.. بمهارة عالية يسيطر على المساحة الكبيرة.. إنه فنّان العملالجاد. واستمرّ "خليل" حتى ترك بصماته في كل مكان». ولمّا ضاقت المدينة به،وبأحلامه، وصخب روحه العاشقة للحياة والحبّ، وضاق بها بعدما هاجر الأصدقاءوالأصحاب، انتقل إلى "اللاذقية" مازجاً حزن السهول بزرقة البحر، ومشكّلا مع صديقه "كاظم خليل" حالة خاصة في الفن والعيش أيضا. وما إن تنتهي أحلامه الصغيرة هناكحتى ينتقل إلى "حلب". في "حلب" فضاء آخر، مدينة من مخمل، وبروكار، وياسمين، وفكر،وفنّ، وغرباء، وليل، وعزلة، وموت أيضا.
وكان لا بدّ منمواصلة التحدي الذي فطرعليه خليل، فانغمس في أعمال خاصّة، وفي التحضير لمعرض نوعيجديد يقدّم من خلاله تجربته. فكان معرضه في صالة "الخانجي" حدثا استثنائيا فيافتتاحه وجمهوره ولوحاته التي أثارت حواراً متواصلاً عنها، شارك فيه عدد منالفنانين والنقاد والأدباء، منهم: "سعد يكن" "طاهر البنيّ" "نيروز مالك" "ناصرحسين" "جورج بيلوني" "حامد بدرخان" وسواهم . وقد كتب "عنايت عطار" عن هذاالمعرض قائلا : «سجّل حضوراً مميّزا على الساحة الفنيّة، ما هو إلا جديد بجديد،وغريب لحد الدهشة. إنه يطرح المرأة بكامل زينتها ولآلئها البراقة وتفصيلات جسدهاالممتلئ بالرعشات الخفيّة وكأنه يبث فيها السحر.. ينتزعها من كينونتها القروية،ينتشلها من الفراش، ووحل البساتين، ومواسم القطن والقمح على الخابور، ليتوّجها علىعرش الجمال، وفي محاريب الصوفية الخالصة، مضفياً عليها هيبة الآلهة الصامتة بوساطةالتجريدات الخلفية والتكوينات شبه الهندسية التي وردت في أغلب أعماله بكثير منالإحكام والدقّة». يستمر "خليل" في منحاه الواقعي بحرارة تعبيرية لافتة،تتجسّد من خلالها المرأة بوصفها ينبوع تحوّلات ورؤى على مستوى نظرتها وما تخفيه ،ولباسها وما يشي به من خصوصية بيئية وميثولوجية، وجسدها وما يثيره من إحساس جماليمرهف. ومشاركاته دائما تلقى تجاوباً كبيرا من الجمهور والنقّاد، فيكتب عنه الناقد "محمود شاهين": «لأول مرّة أشاهد أعمالاً للفنان "خليل عبد القادر" حيث شارك بستدراسات تتراقص فيها الخطوط العريضة المسحوبة بفرشاة جريئة مشكّلة هياكل لنساء تتلوىبسعادة على مساحة من البياض، أكّدتها وتأكّدت هي من خلالها. وللفنان "خليل" تجربةفنيّة مثيرة، يحتضنها معرضه الشخصي المقام حاليا في "حلب"، والذي نرجو أن نراه في "دمشق" قريبا لنقف بشكل أوسع على تجربته الفنيّة بأبعادها الكاملة». وقدشجّعه هذا الاحتفاء بأعماله إلى إقامة معرضه الفردي في المركز الثقافي الإسباني "بدمشق" الذي عرّف الجمهور والنقاد بتجربته الخاصّة والمتفرّدة، فكتب عنه "أديبمخزوم" قائلا: «في معظم أعماله لا يميل إلى الواقع المباشر بل إلى معاني ودلالات. إنه يتجاوز الظاهر السطحي من خلال الإفادة من المعطيات الجمالية التي غذّتها الصيغالتعبيرية والتجريدية والوحشية.. يقدم أعمالا بالزيت والألوان المائيةوالغواش، ويظهر مقدرة أدائية في الخطوط ترتكز على الاحتمالات اللامتناهية للتشكيلبدون استسلام للهذيان الغرائزي. وبهذا المعنى تستطيع أن ترى الإشارات اللونيةالذاتية المتصارعة في نسيج اللوحة في زخم حاد. فالإشارة المنفعلة لا تلغي الإشارةالواعية وإنما تتمازج معها في فراغ السطح التصويري». في "حلب" يتعرّف "خليل" إلى الشاعرة "مها بكر" أحد أبرز
وهل هناك اجمل من ان نترجم ما يبوح به خيالنا على صفحات العمر
حقيقة كانت تغمرني ســــعادة كبيرة
وانا اقرا تفاصيل هذه اللوحة المليئة بمعاني الحب والجمال والأبداع
والأصرار والتصميم والطموح الكبير
ربما لأني كنت اجد نفسي بين اسطره
اشكرك جزيل الشكر على عرض هذا الحوار
واحببت جدا لوحته الأخيرة
ملامح فتاة تبدو لي صامتة رغم كل متاعب الحياة وضغوطاته
لاأدري هكذا تبدو لي