بيير داكو (الإنتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث)

لا يوجد ردود
User offline. Last seen 13 سنة 11 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 03/02/2011

    هو كتاب أكثر من رائع (الإنتصارات المذهلة في علم النفس الحديث) ويعتبر مدخل هام في علم النفس لكل من أراد الخوض في هذا المجال .. الكتاب مكون من 700 صفحة تقريبا ..

    يتوق الطفل إلى أن يصبح رجلاً، ولكن
    ما عدد الرجال الذين يتوقون إلى ما يتوق
    إليه؟

    ما يتصف به عالم النفس
    عالم النفس عقل وقلب، ولا يطلق أحكاماً أبداً. إنه يلاحظ ويحب ويفهم. إنه لا يرى العمل ذاته، اللهم إلا من أجل إصلاحه إذا كان شيئاً؛ ولكنه يبحث عن المقاصد البعيدة الغور، فإذا به أصلح القصد، وسار العمل على الطريق ذاتها.
    قواعده في عمله معارفه الإنسانية والسيكولوجية والفيزيولوجية التي يجب أن تكون واسعة. فهو يعتمد عليها، ولكنه يعيد النظر فيها باستمرار. ذلك أن العنصر الذهني الإنساني لا يخضع إلى أيّ تصنيف جاهز.
    ولا ينسى عالم النفس أبداً أن كل موجود إنساني يعاني الألمَ، فذلك هو وضعه. ويبحث الإنسان عن مخرج من هذا العذاب بالوسائل التي في متناوله. وليستْ غالبية الأعمال "الخبيثة"، مع ذلك، غير هذا البحث.

    عالم النفس إنسان تقي، وأقصد بذلك أنه يعمل من أجل أنْ يشعر بأنه مرتبط بكل ما يحيط به، شعوراً يتعاظم تدريجياً. فهو يعلم أن الخوف يسيطر على كثير من الناس، وأن الحصر يغمر نفوسهم؛ ويبحث الناس إذن عن الأمن قبل كل شيء، أمن ينبغي للأسرة والمجتمع أن يوفراه لهم؛ فإذا لم يجدوه فيهما، تفاقم حصرهم. ودور عالم النفس إنما هو منحهم أمناً جديداً. إنه يعمل على أن يجده كل امرئ في ذاته. فلا شيء يدهشه، ولا شيء يثير في نفسه النفور لأنه يفتش عن الدوافع.
    إن مهنة عالم النفس مهنة إيمان إنساني قبل كل شيء، فكل ما هو إنساني هو من دائرة اختصاص علم النفس، سواء أكان سوياً أم غير سوي. فعلم النفس هو مدرسة الحكمة والتوازن.
    إن أغوار الناس لا تختلف من شخص إلى آخر، فاللاشعور العميق لفرد من أفراد قبيلة البابو (Papou) يشبه إلى حدّ بعيد لاشعور الأوروبي. أليس هذا التأكيد مطمئناً في هذه المرحلة التي تتميز بالتفرقة الإنسانية؟

    تعريف علم النفس:
    علم النفس هو دراسة الظاهرات النفسية أياً كانت. وإن علم النفس:
    1- يلاحظ السلوكات الإنسانية كافة، داخلية وخارجية.
    2- ويبحث في الدوافع الداخلية أو الخارجية فهده السلوكات.

    لا شيء يمكن إنجازه دون توازن، فالتوازن أداة الكمال الإنساني؛ وفقدان التوازن يفصل الإنسان عن كليته الفيزيولوجية والسيكولوجية، وبالتالي يعزله عن إنسانيته الممكنة. إن كل مرض، وكل قصور سيكولوجي، وكل فقدان للتوازن، يفصل الإنسان عن ذاته وعن إمكاناته.
    ولنأخذ مثلاً بسيطاً:
    إذا تألم أحدُ الناس من أسنانه، طغى هذا الألم عليه كلياً، وتركَّز فكره عليه بحيث لا يوجد شيء فيما عداه. إنه مندمج به "ويصبح" هو هو. إن آلام الأسنان تفصله عن ذاته، وعن عمله الممكن، وعن أفكاره، ويختفي كل وضوح. تشبه أكثرية الأمراض السيكولوجية هذا الألم، فلا يتصرف الإنسان حسب وضوحه، بل حسب مرضه، تلك هي حال الخجول والعدواني، والمصاب بالحصر. تلك هي حال المصاب بالأفكار الثابتة والعقد والتشنج..
    كثير من الناس في عصرنا غير متكيفين، وعدم التكيف يعني التناقض، والتناقض يعني التمزق، وهذا يعني الحصر. والتناقض التالي هو أحد أكبر التناقضات: إن الإنسان ممزق بين حقيقة "ما هو عليه" وبين ما "يعتقد أنه عليه". إنه ممزق، والحالة هذه، بين ميوله العميقة وبين سلوكه الخارجي.
    فعصرنا عصر الكبت. إن ضروب الكبت هذه هي عوامل قوية في الأمراض الجسمية والسيكولوجية. فتلقيننا أن ننظر إلى الغرائز على أنها دنيئة، وبخاصة في ميدان الجنس، يتعاظم تدريجياً. ولكن علينا ألا ننسى بأن هذه "الغرائز" باقية، وأنها تعمل عملها، سواء كانت مكبوتة أم غير مكبوتة. ويترتب على هذا أننا إذا فهمنا الغرائز فهماً واضحاً وقبلناها أو رفضناها بطريقة سليمة، فليس ثمة شيء نخشاه. ولكن ما يحدث في الغالب هو العكس مع كل ما ينشأ عنه من العواقب الممكنة.
    لقد اختفى الفرد الواعي؛ إن إنسان العصر الحديث لا يحرضه عقله ولا فكرته الواعية، بل انفعاليته المرضية. لقد بلغت الوسائل المستعملة حدَّاً فريداً من الصفاقة؛ وحسب المرء أن يرى بعض شارات الإعلان وبعض الصحف، وأن يصغي إلى بعض محطات الإذاعة، وأن يلقي نظرة على أكداس الصحف المصورة التي تمنع كل قراءة واعية. ولنُشِرْ جيداً إلى أن كل هذه الانتهاكات انفعالية، لاشعورية في أغلب الأوقات. ثمة إذن ما يستوجب الرعب، فحشو الدماغ سائد على حالة وبائية؛ ويعلم الذين "يمسكون بخيوط اللعبة" قوة الانفعالية تمام العلم.
    ومن أعظم أعمال علم النفس مساعدة الإنسان على إيجاد لاشعوره، والتوفيق بينه وبين الراقات الشعورية للحياة اليومية.
    إن علم النفس مدرسة تحرر ووضوح؛ فهو يحرر من غرائز فُهمتْ فهماً سيئاً وتم تمثّلها بشكل خاطئ، ويتيح لغرائز الإنسان أن تقوم بعملها بصورة سوية وبدون أن يظهر الحصر، ويحرر من ضروب التربية التي تمت ممارستها بصورة خاطئة. إن علم النفس مدرسة يُسر وسيادة وصحو.
    الإنسان المصاب بالجمود:
    لنفرض أن أحد الناس يجهل وجود الموجات الكهرطيسية الصوتية جهلاً تاماً، ويجهل وجود محطات البثّ وأجهزة المذياع، وفي يوم من الأيام قدّم له أحدهم جهازاً وقال له: إذا وضعتَ هذه النشيبة في مأخذ التيار الكهربائي فإنك تسمع الموسيقى. فيفعل ذلك ويسمع الموسيقى فيصاب بالذهول. إنه لا يعلم كيف تحدث هذه الموسيقى، ولا من أين تأتي؛ وحركة بسيطة تكفي لذلك. ولنفرض أنه بقي على هذه الحال طوال حياته: يسمع النوع ذاته من الموسيقى، والأصوات والكلمات نفسها، والمناخ الاجتماعي والسياسي والجغرافي ذاته، ولكنه يجهل وجود مئات من الأجهزة المرسِلة الأخرى والأصوات وضروب الموسيقى الممكنة..
    ولنتصور أن عاملاً تقنياً حضر إلى منزله، وعرض عليه جهازه مسروراً؛ وأكبّ عليه العامل فلاحظ أنه مثبَّت على محطة إذاعة باريس، ولاحظ كذلك وجود مكثِّف. فقام برفع التثبيت عن هذا المكثِّف، وفجأة ظهرت مئات من الألسن، ومئات من ضروب الموسيقى. وأخذ العالم برمته يتتابع. لقد بدا الرجل مذهولاً والأسى يملأ فؤاده، يفهم أنه كان يعتقد بأنه يعيش في جو موسيقى العالم برمّته، ولكن لم يكن ثمة شيء من ذلك..
    مثل هذا الرجل مثل ملايين الأشخاص الذين استمروا طوال حياتهم جامدين على بعض الأفكار والفِكَر التي اكتسبوها، وعلى بعض المنعكسات التي لم يطرأ عليها أيّ تبدل، لا يعرفون نقطة البداية ولا نقطة النهاية، ولا يعرفون حتى وجود إمكاناتهم الخاصة. إنهم يعتقدون، على الرغم من ذلك، أنهم يعيشون؛ والواقع أنهم يدورون كما يدور السمك في الوعاء الزجاجي إلى أن يأتي عامل تقني يوماً من الأيام.
    وكثير من الناس يشعرون بأن شيئاً ما يعوزهم لكي يكونوا هم أنفسهم. إن الغالبية العظمى من الأمراض السيكولوجية مردّها البحث عن هذا الشيء بحثاً ساء توجيهه. إن انسجام كلية الموجود الإنساني أمرٌ ضروري لكي يكون فرداً واعياً، والانسجام يأتي من التماسك، وهذا من التوازن.
    دور التربية الأساسي:
    إن التربية الأُولى تقوم على ضرب من "الترويض"، أيْ على فرض بعض المنعكسات على الطفل. إنّ جزءاً من هذه المنعكسات يتأصَّل إلى الأبد، جيدة كانت أم سيئة.
    إن التربية الكاملة تتطلب أن تكون العناصر الثلاثة كاملة ، وهذا أمر طوباوي. وحتى لو كان الوالدان كاملين، فإن تربيتهما ينبغي لها أن تكون مناسبة لمزاج الطفل الأساسي. إن التربية سيرة حب، ولا وجود للحب الأصيل دون توازن منسجم. فالحب الأصيل هو ذلك الذي يعطي بصورة دائمة. وإلا، فإنه قائم على الانفعالية والاندفاعية الآنية. وعلينا ألا ننسى بأن التربية سلسلة واسعة من النقل ينبغي لها أن تتصف كل حلقة من حلقاتها بأقل قدر ممكن من البعد عن الكمال.