الإنسان وعي وليس وعاء...

لا يوجد ردود
User offline. Last seen 6 سنة 1 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 28/02/2011

مساعدة الآخر تبدأ بعد مساعدة الذات... لا يستطيع الإنسان مساعدة غيره قبل أن يساعد نفْسه، فكيف لمَن يعاني منزله من الفوضى تنظيم وترتيب منزل جاره؟... نظّف بيتَك، طهِّر معبدَك وغيِّر نفسك... بعد رحلة الحج وبعد المسير على درب الحق وعزْف اللحن الإلهي، أنت في واحة الراحة... أنت الآن في واحة تملأها الظلال... واحة بإمكان كل إنسان حيران عطشان أن يجلس ويرتاح تحت ظلال أشجارها، ويشرب من مياهها...
ما يحدث في عالمنا الآن هو العكس... مجموعات من البشر تعاني من اضطرابات نفسية وليل لاوعيها شديد، تحاول مساعدة غيرها، تحاول إسداء النصائح والحِكَم والعِبَر... الجميع نصَّبَ نفْسه مصلِحاً إجتماعياً يريد الخلاص للجميع ويعرف دوائهم والسبيل لمداواة جراحهم... هذا عمل المصلحين الإجتماعيين وأدعياء الحق والفضيلة والسياسيين.. ولكن كيف؟ إن لم تكن حكيماً واعياً عليماً بحالك وأحوالك وعالمك الأكبر والعوالم التي فيك ومعك وحولك وبك فكيف لك أن تساعد غيرك؟ أنت تحتاج المساعدة مثله... في الواقع، إن محاولة هؤلاء الناس تقديم يد العون للغير هي محاولة يائسة للهرب من مشاكلهم هُم... للفرار من مواجهة نفوسهم وأمراضهم وعِلَلَهُم ونواياهم... لكن إلى أين الفرار؟ مهما شغلْت نفْسَك وألهيْتها فاللقاء قريب والمواجهة لا بدّ منها، فلا تؤجل عمل اليوم إلى الغد.
في أحد الأيام أمَر ملك من الملوك العمّال في مملكته أن يفرشوا جميع أراضي المملكة بجلد البقر... والسبب كان في أنه لم يعُد يستطيع المشي على الأرض دون أن يؤذي قدميْه. طلَب الملك هذا أثار سخرية أحد الحكماء الفقراء في المملكة... تقدّم منه الملك والغضب بادٍ على وجهه وسأله ما الذي يدعو إلى السخرية؟ فأجابه: طلبك الغريب بأن تُفرَش الأرض بجلد البقر... فقال له الملك: هل لديك حلّ آخر؟ فأجابه الحكيم بأن لا داعي لفرش الأرض بكاملها... بإمكان عمّالك أن يصنعوا لك من جلد البقر حذاءً يناسب قدميْك فتنتعِله وتمشي به وتحمي نفْسك... ويُقال أن فكرة صناعة الأحذية وُلِدت من هذا الإقتراح...
لا داعي لأن تفرش العالم أجمع يا صديقي بجلد البقر... غطِّ قدميْك ولا تقلق بشأن العالم... إحمِ قدميْك تكون قد حَمَيْت العالم... خلِّص نفْسَك تكون قد خلّصت العالم.. أنت وكل واحد فينا هو المشكلة وليست المشكلة في العالم. هذه بداية الحكمة.
أنت ترى المشاكل تملأ هذا العالم... المشاكل تهدِّد العالم... الفقر والمرض والمجاعات والحروب والعنف والشقاء... أصبح العالم أشبه بالجحيم... تيار من الجنون هائج ولئيم، لكن المشكلة من الفرد وليست من العالم، من الجزء وليس من الكلّ فدَعنا يا أخي لا نوجّه أصابع الإتهام لغيرنا بل نوجِّه أصابعنا لأنفسنا ونسأل أنفسنا ويكون كلّ منّا سائلاً ومسؤولاً. لم تأتِ الويلات من فراغ، فقد بدأت على شكل حكايات فردية شخصية داخل كل فرد من الأفراد.. فوضى فردية أدت إلى فوضى جماعية، وحرب داخلية أدّت إلى حرب خارجية عالمية...
 
العالم وِحدة واحدة لا انفصال بينها ولا أحد يحيا كجزيرة منعزلة، ليس فقط على هذه الأرض.... الكون أجمع هو شبكة من الطاقة نتواصل من خلالها ببعضنا ونتّصل. أنا في حال من القلق والمرض إذاً أنت في حال القلق والمرض... إذاً جيراننا في حال القلق والمرض وهكذا حتى أصبح العالم مريضاً قلقاً مهزوزاً... أدولف هتلر لم يأتِ من العدم، نحن مَن صنَع أدولف هتلر... الفيتنام لم تأتِ من فراغ، نحن مَن أوجدَها... أنا وأنت... نحن كنّا في البداية... أنا وأنت هو المشكلة الأساسية... لذا سأبدأ بنفسي ومن نفسي حتى أغيِّر نفسي ولا علاقة لي بغيري. أنا مشكلة العالم وسأحل مشكلتي بنفسي... من الآن يا أخي لا تتجاهل عالمك الأكبر الذي انطوى فيك واستوى وابدأ الرحلة الآن وهنا.
الأمر الجميل أن الإنسان حين يصل واحة الراحة... حين يرتقي إلى مقام الأبرار والصالحين والقديسين، فإنه سيرى جذور المشكلة بينما يرى المجتمع العوارض ليس أكثر... المجتمع يرى العوارض فيحاول معالجتها ولأجل هذا ترانا من فشل إلى فشل ومن جهل إلى جهل ومن دمار إلى دمار أكبر... ماذا فعلَت السجون؟ هل اختفت الجريمة؟ ماذا فعلَت جميع أنواع العقاب؟ هل اختفى العنف والخداع والكذب والرياء؟ لماذا لم تختفِ؟ ما السبب؟ كل هذه المحاكم والقوانين والخطب والوعظات وما السبب؟
السبب أننا لا ننظر إلى الجذور... إلتهينا بالعوارض، بالوَهْم ونسينا الأصول...
الفقر ليس المشكلة الأساسية بل الطمع... الطمع هو الجذر الأساسي الأصلي. الفقر نتاج الطمع ونحن نحارب الفقر ونحاول القضاء عليه ولاشيء يحدث... لم نحلّ أيّ مشكلة بعد فالمشكلة ليست في الفقر... الطمع هو الجذور ولحلّ المشكلة علينا انتزاع الجذور من الأرض، علينا معالجة نفْس الإنسان الطمّاعة الأمارة بالسوء وعندها سيختفي الفقر تلقائياً... الحرب ليست المشكلة الأساسية... جذور المشكلة هي صراع الإنسان الداخلي، حربه الداخلية التي تولّد العنف والكراهية. يمكنك أن تحتجّ وتُعلن على الحرب العداء... يمكنك أن تنزل الشارع وتعلن رفضك لمن هُم في نظرك السبب في الحرب، لكن أنظر إلى نفْسك وإلى المحتجّين معك... جميعكم ثائرون هائجون والعنف يملأ عيونكم... جميعكم عدائيون تماماً كالحرب التي تدّعون بأنكم لا تريدون وبها لا ترغبون... لكنها داخلكم أنتم وليست من الفريق الآخر ولا خارجكم... الحرب منهم ومنكم... كل هذا نفعله بإسم السلام ولأجل السلام؟ لقد هرب السلام ولن يعود قبل أن نهدأ ونفتح له القلوب وحين يسكن القلوب سيسكن الشوارع والبلاد والعالم أجمع، ليس قبل هذا. الناس تغلي من الداخل، كلٌّ يجلس على بركانه الخاص انتظاراً للحظة الإنفجار... المشكلة ليست في الحرب، المشكلة في الأفراد...
النبي محمّد يرى جذور المشكلة، المسيح والإمام عليّ وإبراهيم وبوذا وغيرهم... جميعهم تحدثوا عن العودة إلى الجذور لحلّ مشاكلنا وحتى ينتهي ليلَنا ونحتفل بفَجرِنا لكننا لم نسمع ولم نفهم... النبي قال لنا تأمل ساعة خير من عبادة سبعين عام، وجميع الحكماء تحدثوا عن أسرار التأمل ورغم هذا لا نزال نسأل ما دخل التأمل بالحرب... لا نزال غافلين عن الصلة بين التأمل والحرب... لا نزال نجهل أن الحرب سببَها غياب التأمل والتأمل يعني حلول السلام داخل الإنسان ومن السلام الداخلي إلى سلام خارجي.... السلام عليكم وعليكم السلام، سلامٌ على النفْس أولاً حين يحلّ فيها السلام ثم سلام على الكون ومَن فيه حيث يرتدّ لنا وعلينا ويتردّد فينا السلام...
 
الإنسان وعي وليس وعاء، لكنه تحوّل إلى وعاء لا يعي بل يَسَع كل أمراض وشهوات وبلوات وجنون العالم وما نراه يومياً على الشاشات وفي الساحات والمؤتمرات والقمم السياسية الأشبة بالقمامة. البشرية أصبحت بشعوبها وحكّامها وعاء يسَع ويجمع هذه الأمراض ويبلَع، وماذا بعد؟...
بعد كل هذا الكبت يأتي موعد الفَلت والحاجة للإستفراغ ورمي النفايات مجدداً في الساحات والمؤتمرات والقمم والمجتمعات وعلى الشاشات. هذا الإستفراغ، رمي النفايات هذا هو الحرب ولا معنى آخر للحرب... لا معنى آخر ولا فضيلة ولا أي شعار للحرب من الشعارات التي نسمعها ونحيا تحتها ونموت بإسمها ولأجلها. لحظة الحرب هي لحظة جنون جماعي... المجتمع أو العالم يصل إلى القرار والقرار يصدر عن كل مختار بعد أن أصابه الجنون وحده واحتار، ثم وجد الجنون نفْسه والتعب والأرق والقلق والفقر يصيب أهله وبيئته مِن حوله، فيقررون جميعاً وفي لحظة حاسمة أن يكون الجنون مصيراً جماعياً فما فائدة أن تجنّ وحدك وتستفرغ على نفْسك؟ إن كان الجميع مجانين تعبانين فهيا لنحتفل بالجنون ونقيم له حرباً يعلن فيها عن نفْسه وقهره ويقول ما يجول في خاطره ويمجِّد كبتنا وتوترنا وألمنا وحقدنا وكل ما وعَاه وعائنا فنستفرغ على أنفسنا وعلى غيرنا... والمشاركة في الجنون قد لا تكون مباشرةً فالمشاركة لها أنواع وأنواع... أنت تشارك في الجنون إن شاهدْت وقرأت أخبار من يقتلون وينهبون ويظلمون، إن اتّبعْت هذا العالم المجنون وتعلّمت أصول هذه الفنون لتشارك في هذه اللعبة عن قرب أو بُعد.
 
الحرب لم تكُن المشكلة يوماً... الحرب صورة تجسِّد ما في نفوسنا من جنون وحقد وقهر وكبت. صورة داكنة يرسمها جهلنا على لوحة الوجود. الفقر لم يكُن المشكلة يوماً. المشكلة في أصحاب الطمع والطموح ممّن يتنافسون في دنيا دنيّة ويطمعون في احتلال أعلى المناصب والمراكز. هؤلاء يغذي المجتمع جنونهم ويساعدهم بأنظمته التي يوزعها على شكل كتب وأفكار وجلسات حوار. يساعدهم على اللجوء إلى اختيار ما اختاره لهم وما هو هذا الخيار؟ اللحاق بالغبي صاحب المال والعقار. لم يكُن خيار المجتمع لأبنائه على مرّ الأيام والليالي اللحاق بالنبي والصدّيق والمسيح والمختار، فمِن أين للعبيد أن يولدوا إن لحقوا النبي وأصبحوا أحرار؟... لا فالعبْد يولَد وعصا الطموح في يد مجتمعه يهدده بها ويلوِّح له بها ليغريه ويغويه وعن طريق القلب يُبعِده فيخاصم قلبه ويجافيه ويلحق صاحب المال والعقار وطال عمرك طال يا سيّدنا وحاكمنا. الفقر وليد الطمع والطمع آفة ومرض يأكل نفْس الإنسان وينهَش في روحه وما من مجتمع اجتمع فيه الغني والفقير ووُلِدت فيه الطبقات الإجتماعية إلا وسوف يعاني من الطبقيّة والحقد والعنف والجريمة والكراهية. وإن حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل وأين هو العدل؟ إختلّ الميزان فمَالَت مجتمعاتنا ووُلِد الغني والفقير، وهذا الغني لم يجمع ماله إلا من شحّ أو حرام كما أخبرنا الإمام عليّ... وجميعنا يسمع ويشاهد حياة الترف والبزخ فلا شحّ في أيامنا ومنذ أزمنة بل مال حرام طاقته في ميزان الأكوان سلبية وذبذباته شيطانية تجتذب لمجتمعاتنا طاقات وأحداث وأقدار سوداوية قاتمة ودمار شامل قريب سيكون حكمة كونية ليطهِّر الوجود نفسه ويستعيد اتزانه ومعه يستعيد الإنسان وَزنه وقيمته بوعيه وتُقاه لا بماله ولقَبِه وجاهه وغناه.