التوبة ...

لا يوجد ردود
User offline. Last seen 6 سنة 4 أيام ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 28/02/2011

ليست التوبة عملاً ظاهرياً بل تحولاً مخفياً بعيداً عن العيون. ليست التوبة تحولاً مخفياً بل توجهاً داخلياً لا تخالطه الظنون. ليست التوبة توجهاً داخلياً بل عودة إلى الديار لاكتشاف السر المكنون. لكن التوبة ليست عملاً ولا تحولاً ولا توجهاً ولا عودةً… إنما التوبة هي كلام معناه أنك قضيتَ عمرك ملاحقاً الرغبات.. هائماً متنقلاً من رغبة إلى رغبة جامعاً في صدرك خيبة الأمل وصوت الأنات.. عالماً في قلبك بأن كل رغبة تخبىء لك نصيبك من البؤس والآهات.. فمن ذا الذي أشبع في عمره رغبة إشباعاً خجِلت منه باقي الرغبات فهمت بالرحيل عن مسرح الحياة؟ هذا كلام معناه أنك حضنت في نفسك شعوراً بأنك لن تصل برغباتك إلى أي مكان وأن الإكتفاء شيء يبدو بعيد المنال في زمان غير هذا الزمان…
رؤية هذه الحقيقة هي يد تمتد لك داعيةً إياك لأن تتوقف… ليس أنك تقوم بمجهودٍ حتى تتوقف، فجهد التوقف الذي تبذله نفسك سيكون عملاً وتحولاً وتوجهاً وعودة لملاحقة رغبات غير سابقاتها من الرغبات… رغبة في أن تكون دون رغبة.. في أن تفرغ كأس نفسك من أي رغبة… لذا من المهم أن تعلم بأنك وإن كنت لاتزال تبذل مجهوداً في سبيل عودتك وتوجهك لداخلك.. فأنت لا زلت تذهب خارج نفسك.. فأي مجهود لن يأخذك سوى بعيداً عن ذاتك.. عنك أنت. إنما الرحلات جمعاء هي رحلات دنيوية خارجية وقد أخطأت حين ظننت أن هناك رحلة داخلية.. فكيف لك أن تقوم برحلة داخل نفسك وأنت ولِدت وتحيا الآن داخل نفسك.. في نفسك… أين ستذهب وأنت في المكان الذي تحاول الذهاب إليه؟… لكن حين تتوقف عن الرحيل.. حين تمتنع عن الترحال., حين ترحل غيوم رغبات كانت تحجِب صفاء رؤيتك من أن يسطع شمساً وسط السماء.. أنت في نفسك. لكنه لم يكن تحولا ولا توجهاً.. إنه مجرد امتناع عن الرحيل والترحال في كل مكان عدا نفسك.

              
لطالما كانت اللغة مشكلة صعبة عاجزة عن التعبير بما تجود به حقيقة الحال.

كان يوماً مشمساً جميلاً حين قرر ضفدع أن يتنقل ويستمتع بالجو الدافىء المستكين. قفز بين الأشجار وفي المروج الخضراء لأجل الإستمتاع لا لشيءٍ آخر.. وبعدها عاد إلى ضفة البحيرة التي يحيا عليها. حين نزل في الماء سألته صديقته السمكة.. أين كنت؟ فأجابها بأنه ذهب ليقفز على اليابسة. عندها سألته السمكة ما الذي تعنيه بالقفز على اليابسة؟ لابد أنك تعني السباحة. لكن الضفدع ضحك وقال لها.. لا لم تكن سباحة بل كان قفزاً على يابسة جامدة. فاستغربت السمكة وتسائلت عما إذا كان يمزح ويضحك معها أم ماذا وقالت.. لقد ذهبت إلى كل مكان وطفت في جميع الأرجاء.. ولم أمر قط بمكانٍ لا أسبح فيه إن كلامك مبهم مجهولة معانيه.. فهل أصابك الجنون

 

لكن هذه السمكة لم تكن يوماً على اليابسة،.. لذا فالقفز على اليابسة بالنسبة لها كلام تجهل معانيه ولا تملك إحساساً يصلها منه أو تسكبه فيه. لكن الضفدع لو حاول مزج لغتها بلغته قائلاً بأنه ذهب ليسبح على يابسة جامدة فلن يكون لكلامه معنى. عندها لن تفهم السمكة سوى كلمة يسبح، هي لا تفقه سوى مفهوم السباحة.

 
هكذا هو العقل الذي تحول كأساً تملؤه وتطفح به الرغبات.. لن يفهم سوى الرغبات،.. وهذا ما أدى إلى ولادة الرغبة بالوصول إلى الله. لكن الحقيقة تهدم كل هذا… حقيقة الكون التي يأبى الإنسان أن يواجهها.. طبيعة الوجود التي يهرب الإنسان من مواجهتها… الحقيقة تقول بأن لا أحد بإمكانه أن يكون راغباً بالله.. لماذا؟ لأن الله يأتي إليك فقط حين يصبح كأس نفسك فارغاً من الرغبات.. ليس قبلاً… حضور الله حضرة تتوهج بعد رحيل الرغبات. رحيل قطار الرغبات حاملاً كل رغبة ملكتك على مر الأيام.. يعني وصول الحضرة الإلهية حتى يستضيفها قلبك وتثمل بها نفسك. هل لاحظت أنني استخدمت مجدداً كلمة يأتي إليك وكلمة وصول؟ والتي هي أيضاً كلمات خاطئة. لأن الله موجود في قلبك قبلاً وهو موجود الآن وسيظل موجود بعداً.. ما عليك سوى أن ترى هذا.. أن تفقه هذا.. ورؤيتك وفقهك وبصيرتك لن تكون ثاقبة نافذة إلا بعد رحيل رغباتك.

 

لا شيء في هذا الوجود يأتي أبداً.. ولا شيء يرحل أبداً. كل ما هو موجود.. موجود كما هو موجود. الأشجار خضراء والزهور حمراء والغيوم تنساب في السماء.. كل شيء موجود في المكان الذي كان فيه موجود.. كل شيء سيظل موجود كما كان وسيكون موجود. وهذا معنى كلمة الطبيعة. لكن للإنسان قدرة على أن يحلم ودائماً ما تستهويه وتغويه الأحلام.. دائماً ما تبعده عن نفسه الرغبات… قدرته على الحلم هي المشكلة وليست كما تقول أغانينا وشعرائنا أنها الطريقة لمتابعة الحياة وأن الحلم هو ما تبقى لهم في الحياة. فالحلم أداة الإنسان ليسافر بعيداً نحو المستقبل.. ليزرع آمالاً في مستقبلٍ بعيد… لا زال الإنسان هنا في مكانه.. لكن عقله أصبح في المستقبل… كمَن يحلم ليلاً وهو في بلده بأنه يجوب أنحاء بلد آخر.. سيجد نفسه حين يصحو صباحاً في بلده.. وليس في البلد التي كان يحلم أنه بها. حلمه بأنه يجوب أنحاء البلد الآخر لم يسافر به لذلك البلد الآخر.. لم ينقله إلى هناك فلا زال هنا في مكانه.. وسيبقى دائماً هنا لأن الآن وهنا هما الحقيقة الوحيدة في الحياة. لكن بإمكان الرغبة أن تخلق الأحلام.. والرغبة أرض واسعة شاسعة بإمكان الإنسان أن يلهو فيها ويركض يميناً ويساراً متجهاً للخارج للدنيا لكل مكان.

والآن ما معنى العودة للتوجه داخل النفس؟ العودة إلى النفس؟ أو التوبة؟

التوبة سر يعني حال وصل على تلاله الإنسان.. ومن على تلال هذا الحال والإنسان يرى قلة حيلة الرغبات.. وضياع جميع الأحلام وتكسرها على صخرة واقع مليء بالآهات.. وأوهام تعده بها الرغبات.. في واحة هذه الرؤية تستسلم وتختفي الرغبات… تحت شمس هذه الرؤية تتبخر وتتلاشى الرغبات… في هذا الوضوح لا تجد الرغبات لنفسها مكاناً بين الموجودات. في هذا الحال، حال اللارغبة.. أنت في الداخل.. أنت في نفسك.. أنت فيك.. في مخدعك ومحرابك ومعبدك. وليس معنى هذا أنك ستحول طريقك وتتجه نحو الداخل.. ليس معناه أنك ستتوقف عن الرغبة أولاً ثم تتجه نحو الداخل.. لا… لأن فناء الرغبة بحد ذاته هو توجهك وتحولك وعودتك… لهذا فليست التوبة تحولاً ولا توجهاً ولا عودة بنفسها.. إنما فناء رغبتك هو كل هذا:

فناء رغبتك هو توبتك.