في البحث عن التخلف

رد واحد [اخر رد]
User offline. Last seen 17 سنة 12 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 23/08/2006

رغم العدد الإضافي من الخلايا العصبية التي تدين لها التعقيدات الإنسانية و التي تضع آلة الإنسان الرائعة ذات المجسة الواسعة في خانة الكائنات الراقية . لا تكفي أن يتغلب الإنسان على حيوانيته . على دوافعه الأولية . التي يجاهد الإنسان طوال حياته في إيجاد أنماط التوفيق بين دوافعه الأولية و بين ما يفرض عليه الوسط العام و هذه الأخيرة بجميع منطلقاتها و مستوى تطورها تشكل العقلية .
لننحدر إلى عقلية المجتمعات التي تشكل النسبة الكبرى من سكان الكرة الأرضية , و هي المجتمعات النامية . نجد السمة الوحيدة التي تحملها بامتياز هي التخلف. و هذه الأخيرة و قبل الدخول إلى عقلية الإنسان المتخلف و سيكولوجيته و نعرفها بشكل بسيط " هي ظاهرة كلية بجميع جوانبها و التفاعل فيما بينها تعطي هذه الظاهرة قوة و تماسكا كبيرين تجعل مقاومة عمليات التغير ذات خطر كبير . و التخلف من الناحية النفسية هو سلوك يتخذه الإنسان حيال حركة أو موقف , في كل معيار أو ميل . أنه نمط من الوجود له خرافاته و أساطيره و معايره التي تحدد للإنسان موقعه , نظرته إلى نفسه , و الهدف من حياته . أنه موقف من العالم المادي و ظواهره و مؤثراته . و موقف من السيد المتسلط. الذي يجعل من وجوده غير محتمل , يخلق لديه آلاماً تؤثر على توازنه النفسي , لذلك تبرز أوليات دفاعية ضد هذه الآلام . أوليات تجعل وضعية الإستيلاب ممكن . يتعرض الإنسان في البلاد المتخلفة لإستيلاب الطبيعة تجعله أسيراً لها يرضخ لغوائلها . تهدده في صحته و أمنه و سلامته. يولد الإنسان في هذه البلاد اعتباطيا بشكل مصادفة أو عبء , أنه لا يولد لذاته , يسيطر عليه الأمية و الجهل . و قسوة الطبيعة. يقف عاجزا أمام هذا الإستيلاب . أما إستيلاب المتسلط . فهو عالم السيادة القلة ذات الحظوة التي تفرض هيمنتها على الغالبية, خالقة بذلك نموذجا عاما من علاقة التسلط و الرضوخ و التبعية في ذهنية المتخلف. نجد هذا النمط من أعلى قمة الهرم إلى أدناه من الحاكم الأول إلى مرؤوسيه , و من هؤلاء إلى مرؤوسيهم , و منهم إلى السكان . و بين هؤلاء من الأقوى إلى الأضعف من الرجل إلى المرأة من الكبار إلى الأطفال, و بين الأخوة من الأكبر سنا إلى الذين يليهم. أما القمة فترضخ لقوى خارج الحدود. و هذا الإستيلاب التسلطي و العلاقة الغير متكافئة و تبخيس قيمة الإنسان يفرضها العنف . و جدير بذكر أن نوضح بأنه إذا كان التقدم التقني و الصناعي يخلص الإنسان من قهر عالم الضرورة في المجتمعات المتقدمة . فلا زال في كثير من أحوله عاجزا عن إعطاء الإنسان كل قيمته و اعتباره فما زال الإنسان أداة إنتاج و استهلاك . فالتخلف بالمنظور النفسي يتجاوز حدود التقنية و التصنيع و التكنولوجيا و يتمحور حول قيمة الإنسان و كرامته , وكل هدر لها أو تحويل إلى أداة هو تخلف .
سيكولوجيا التخلف هي سيكولوجية الإنسان المقهور أمام عنف الطبيعة و أهوالها و جبروتها و التي تشكل تهديدا لقوته و أمنه و صحته من فيضانات و جفاف و أمراض و أوبئة , و حروب …. إلخ . هذا العنف المفروض على الإنسان المتخلف من قبل الطبيعة تجعله يعيش في عالم الضرورة . عالم يعجز الإنسان المتخلف عن إيجاد سبل لسيطرة عليها و مجابهتها , التي تمد الحياة بنوع من الأمل و العنفوان و الرغبة في العيش بكرامة و يدفعه إلى احترام ذاته و قيمة وجوده . أنه يعيش في حالة تهديد دائم لأمنه و قوته , تبدو له الأمور وكأن هناك باستمرار انعدام في تكافؤا بين قوته و قوة الظواهر التي يتعامل معها و التي تسيطر عليه , و بالتالي فهو معظم الأحيان يجد نفسه في وضعية المغلوب على أمره , يفتقد الطابع الاقتحامي في السلوك و سرعان ما يتخلى عن المجابه منسحباً أو متجنباً أو مستسلماً , أما طلباً للسلامة و خوفاً من سوء العاقبة أو يائساً من إمكانية الظفر , و بذلك يفقد موقفه العام من الحياة ويقع في أسلوب التوقع و الانتظار لما قد يحدث و يفقد الثقة بنفسه و يعممها على الآخرين أمثاله و يصل حد فقدان بقدرة الجماهير على الفعل و التأثير مما يلقي به و بشكل نكوصي لأن يصبح إتكالياً على منقذ سحري يرى فيه كل إمكانيات الكفيلة على التغير , فهو الذي يحمل له الخلاص , أنه القوي الجبار . من هنا ندرك مدى تعلق و التفاف هذه الجماهير حول زعيم و عبادة الفرد , مما يدفع بهذا الزعيم إلى التسلط و الديكتاتورية تحت شعارات الخلاص و إنقاذ الجماهير . أو يقوم الإنسان المقهور بالتقرب من القوي الذي يسيطر على الطبيعة عن طريق إقامة الطقوس و الشرائع الدينية لها اتقاء لشرها ولنيل بركتها , أو بالخرافات و التطيّر* و ما أكثرها في عالمه . عجز الإنسان المقهور و خوفه من الطبيعة و السلطة و انعدام القدرة على المجابهة هي أساس عقدة النقص . و المشاعر الدونية بشكل عام تميز موقف الإنسان المقهور من الوجود .
عقدة النقص و الشعور بالدونية تدفع الإنسان المقهور نحو عقد العار , متممة عقد النقص التي تجعل من وضعه عار وجودي يصعب احتماله . يخجل من ذاته و وجوده برمته . أنه في حالة دفاع دائم عن افتضاح بؤسه و عجزه . و يخشى أن ينكشف سره فيتمسك بشدة بالمظاهر التي تشكل ستراً واقياً لبؤسه . مع عقدة العار نضع الأصبع على أكثر مواطن الوجود ضعفاً آلا و هي الكرامة / الجرح النرجسي / لذلك فأن الكرامة و العزة تحتل مكانة أساسية في خطاب الإنسان المسحوق . يستطيع الإنسان المسحوق أن يعيش بدون خبز . و لكنه يفقد كيانه الإنساني كله , إذا فقد كرامته الذي يقوم بإسقاطها على موطن الضعف في كيانه و هي المرأة . يربط الإنسان المسحوق شرفه كله بأمر جنسي ليس له أي مبرر من الناحية البيولوجية . ما دامت المرأة تعاني أكبر درجات الغبن في المجتمعات المقهورة فليس غريباً اعتبارها الشرف و الكرامة كلها و يصل إلى حد التطرف بإعطاء مبرر عرفي بقتلها تحت اسم جناية الشرف . وكل ذلك في سبيل الابتعاد عن مصدر العار و سببه وهو الاستغلال والتسلط وما يفرضانه من قهر على الإنسان و سحق كرامته .
إن معاناة الإنسان المقهور ماضياً وحاضراً ومستقبلاً , وهي الأبعاد الثلاثة لديمومة أي محصلة التجارب الوجودية المعاشة زمنياً , وحدة القهر والتسلط الذي فرض على الإنسان المقهور وعجزه عن التحكم بمصيره ينعكس على كيانه وجوده على شكل تضخم آلام الماضي , التي تؤثر على حاضره وتجعله أشد وطأة و على مستقبله تجعلها مدعاة للقلق . أفراح الحاضر تدخل التفاؤل على المستقبل كما أنها تخفف من معاناة الماضي وآمال المستقبل تخفف بدورها من وطأة معاناة الحاضر وتنسينا متاعب الماضي . إزاء هذا الأزمة والمأساة الوجودية لا يملك الإنسان المقهور حلا سوى الهرب إلى الماضي الخرافي الغيبي أو الواقعي الذي قد يحمل له بعض العزاء , ويعيد إليه اعتباره إلى نفسه وقد يهرب الإنسان من إطار الزمن بتفجير الديمومة من خلال الغرق في ممارسات التي تنسيه واقعه وبؤسه المعاش كالذِكر والإدمان على المخدرات وحضور حفلات الزار ** ... ألخ , ومن أكثر وسائل الهرب شيوعاً التمسك بأوهام الخلاص السحري .
اجترار السوداوية للمأساة الوجودية للإنسان المقهور ومرارة الحياة يطغيان طابع الحزن على مزاجية الإنسان المقهور . ومن اللافت للنظر أن نلاحظ ندرة الأغاني ذات الطابع الفرح من الحياة . إن الأغنية تعبير فصيح عن المعاناة الوجودية . وليس آلام العشق سوى ستار يخفي ورائه آلام وجوده فالأغاني الحزينة هي مرآة يرى فيها الإنسان المقهور ذاته ويعيش من خلال احباطاته .
______________________
• التطيّر : تنبأ الإنسان المتخلف بالمستقبل من خلال دلائل ومؤشرات من خير ممكن أو شر محتمل كالأحلام والعرافة وقراءة الطالع و الحيطة لها مثل ( الخرزة الزرقاء – رسم أصابع اليد مفتوحة – حذاء طفل صغير – نعل حيوان )
• الزار : هو حفل يقوم على استخراج العفاريت والأرواح الشريرة من جسد المريض الذي حل فيه واستئصالها من خلال طقوس يجريها شيوخها ( عملية تفريج آنية للكبت والعدوانية المتراكمة )

User offline. Last seen 8 سنة 3 أيام ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 30/01/2006

بصراحة معلوماتك قيمة ولقد اعجبتي النقاط التالية:
1 -إذا كان التقدم التقني و الصناعي يخلص الإنسان من قهر عالم الضرورة في المجتمعات المتقدمة . فلا زال في كثير من أحوله عاجزا عن إعطاء الإنسان كل قيمته و اعتباره فما زال الإنسان أداة إنتاج و استهلاك . فالتخلف بالمنظور النفسي يتجاوز حدود التقنية و التصنيع و التكنولوجيا و يتمحور حول قيمة الإنسان و كرامته , وكل هدر لها أو تحويل إلى أداة هو تخلف

.2- يصبح إتكالياً على منقذ سحري يرى فيه كل إمكانيات الكفيلة على التغير , فهو الذي يحمل له الخلاص , أنه القوي الجبار . من هنا ندرك مدى تعلق و التفاف هذه الجماهير حول زعيم و عبادة الفرد , مما يدفع بهذا الزعيم إلى التسلط و الديكتاتورية تحت شعارات الخلاص و إنقاذ الجماهير . أو يقوم الإنسان المقهور بالتقرب من القوي الذي يسيطر على الطبيعة عن طريق إقامة الطقوس و الشرائع الدينية لها اتقاء لشرها ولنيل بركتها , أو بالخرافات و التطيّر* و ما أكثرها في عالمه . عجز الإنسان المقهور و خوفه من الطبيعة و السلطة و انعدام القدرة على المجابهة هي أساس عقدة النقص . و المشاعر الدونية بشكل عام تميز موقف الإنسان المقهور من الوجود .
3-يطغيان طابع الحزن على مزاجية الإنسان المقهور . ومن اللافت للنظر أن نلاحظ ندرة الأغاني ذات الطابع الفرح من الحياة . إن الأغنية تعبير فصيح عن المعاناة الوجودية . وليس آلام العشق سوى ستار يخفي ورائه آلام وجوده فالأغاني الحزينة هي مرآة يرى فيها الإنسان المقهور ذاته ويعيش من خلال احباطاته .

شكراًجزيلا روناكronak معلومات مفيدة جدا