الإسقاط

رد واحد [اخر رد]
User offline. Last seen 16 سنة 22 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 12/08/2006

الإسقاط...
ابن الجزيرة
كان تقدم علم النفس فتحا كبيرا على الكشف عن أسرار في بنية التكوين النفسي للإنسان، وخاصة في ميدان التحليل النفسي الذي قام به كل من سيجمند فرويد وتلميذاه كارل غوستاف يونغ وألفرد أدلر..(1)
ومن مفاهيم هذه المدرسة مفهوم (الإسقاط..).
بحسب تحليل هذه المدرسة – والذي يبدو منطقيا- فإن الإنسان تتراكم لديه مجموعة كبيرة من الرغبات التي لم يسمح لها بالتحقق في منطقة من النفس يسمونها( الهو) وهي منطقة لا شعورية(لا يعي صاحبها ما يجري فيها) (2)
فتموج هذه الرغبات في حركة دائبة تحاول الخروج من هذه المنطقة باختراق حدودها(أشبه بسجن لها) ولكن آلية أخرى يسميها أصحاب هذه المدرسة بـ(الأنا الأعلى)(3) ويفسرها البعض باسم (الضمير) وإن كان هناك اختلاف حول تطابق اسم "الأنا الأعلى" على اسم "الضمير" ليس هنا مجال الخوض فيه.
الأنا الأعلى أشبه بحارس يمنع الرغبات التي تموج في منطقة الهو وتتطلع للخروج، لكي تخرج...لأنها لا تتوافق مع قيم المجتمع الدينية.. أو الأخلاقية.. أو العرفية.. أو غير ذلك..!
كيف نشأت هذه الآلية (آلية الأنا الأعلى)..؟
برأي أصحاب هذه النظرية(نظرية التحليل النفسي أو مدرسة التحليل النفسي) فإن هذه الآلية تكونت عبر نمو بطيء للطفل في الحياة الاجتماعية تلقّى أثناءها( التوجيهات الدينية والأخلاقية والعرفية...بل والنفسية أيضا من قبل بعض الأفراد(أو المجموعات) المحيطين به أو حتى بعض القيم النفسية الاجتماعية أيضا ..) فانعكست هذه الأوامر(التوجيهات...) في داخل النفس الإنسانية..وأصبحت تظهر على شكل جهاز مراقبة(آلية) توازن بين هذه القيم و الأوامر (التوجيهات الدينية والأخلاقية والعرفية...الخ) وبين الرغبات التي مُنعت من التحقق،فتراكمت في منطقة الهو.. تنتظر فرصتها للظهور(الخروج). فإذا توافقت مع هذه القيم والأوامر سُمحَ لها بالخروج، وإذا لم تتوافق معها مُنعت من الخروج...
وفي حال تقدم الزمن بهذه الرغبات الممنوعة( أي المكبوتة) بعدم الخروج.. فإنها تصبح جزءا من الحياة النفسية لصاحبها وتتحول – أحيانا- إلى جزء من أسلوب التفكير لديه، فيخرج هذه المكبوتات على شكل أطروحات فكرية نظرية..أو على شكل نوع من السلوكيات الشخصية – ربما غير المتوازنة،أو تبدو متوازنة في نظر صاحبها ومن يشترك معه في هذا النمط من الحياة النفسية بشكل آو بآخر..).
فمثلا قد يصف هذا الشخص غيره بأنه غير متوازن..وهو هنا لا يصف الشخص، وإنما يعبر عن ما يشعر هو به- دون أن يدري- وهذه الحال تسمى لدى مدرسة التحليل النفسي التي أسسها " فرويد " وتلميذاه" أدلر" و"يونغ " بـ :مفهوم ( الإسقاط ).
وهو مفهوم يلعب دورا خطيرا في حياة الإنسان..فيشوِّه الأحكام التي يطلقها، ويشوه التوصيفات التي يطلقها على الأشياء..لأنه هنا لا يحكم بموضوعية.. ووفقا للعقل. بل يحكم وفقا للحال النفسية التي هو عليها (وهي حال فيها بعض تعقيد،يسمى في مصطلح علم النفس بـ( العقدة النفسية)(4) .
ولعل المعنى البسيط والمعبر عن هذه الحال هو في قول القدماء:" كل إناء ينضح بما فيه ".
إذا فالتكوين النفسي للإنسان هو الذي يحدد أسلوبه في التفكير وفي التصرف(السلوك عموما).
فإذا كان نمو حياته النفسية (ونعني بها كل ما يقابل الجسد فيه) أي العقل والإدراك والتذكر والانتباه والتحليل والتفسير والتجريد...ومن ثم العاطفة والميول والاتجاهات والانفعالات عموما" الشفقة ،الحب، الكراهية ،الحقد، النزوع نحو شيء ما أو فكرة ما أو شخص ما ..الخ"
إذا كان نمو هذه الحياة النفسية سليما..تعيش ظروفها الطبيعية..بدون تعرضها لأخطاء فاحشة أثناء التربية، ومنها القهر وحجز الحرية في ممارسة بعض الرغبات والغرائز.ومعالجة بعضها الشاذة بأسلوب حكيم فيه الهدوء.. وفيه الحوار المستمر.. وتسهيل تأثيرها على نفس الطفل.. فإن معاناته ستكون قليلة ..وستكون الرغبات المكبوتة في منطقة الهو(اللاشعور) قليلة، ومن ثم ستكون الحياة لديه متوازنة، ويستطيع حينئذ أن يحكِّم عقله في تحليل الأشياء، وتفسير ظواهرها، وعلاقاتها، بشكل أقرب إلى الواقعية والموضوعية..!
أما في حال العكس من ذلك، أي نمو الإنسان(الطفل) نموا.. الحرية ممنوعة عليه في ممارسة ألعابه، وعدم القدرة لذلك بالتعبير عن شعوره، بطريقة عفوية.. وطبيعية.. بسبب مراقبة تربوية غير حكيمة..لا تقدر للأشياء قيمتها.. ومعناها.. ودلالتها..فيتدخل الأهل والمربون بطريقة متعسفة في حياته، فيفرضون عليه قيمهم عنوة، وإرهابا بحجج مختلفة – ومهما كانت- ولا يسمح له بممارسة رغباته بشكل طبيعي..فإن هذه الرغبات الممنوعة، تُدفع نحو منطقة الهو(اللاشعور) لأن الرغبة الممنوعة لا تتلاشى.. ولكنها تذهب إلى تلك المنطقة اللاشعورية (المظلمة) حيث تسبح فيها.. حتى تجد فرصة لها للتعبير عن ذاتها بشكل ما – غالبا يكون هذا التعبير مشوها- فتظهر على شكل ما يعرف بـ: فلتات اللسان.. أو زلات القلم.. أو الأحلام.. أو بعض الأمراض النفسية ..أو غيرذلك. وفي جميع الأحوال فهي تأتي مختلفة عن ما تعارف عليه الناس.. وتبدو شاذة (و يعبر العقل الشعبي عن هذه الحال- عادة- بالقول: بلا حمدي..بلا قصدي..لم أكن أقصد..الخ). وقد يصحح اعتذار بطريقة ما، آثارها.. وقد لا يصحح.. فالذي وقع الأثر عليه هو أيضا قد يكون من النوع الذي تموج الرغبات المكبوتة في منطقة الهو لديه، وبالتالي فهو تحت تأثير حالة يعاني فيها من ضعف السيطرة على نفسه.. بسبب هذه الحال، وقد يكون من النوع المتوازن الذي أوتي حظا جيدا من التربية الصحيحة. فهو يحسن تقدير الظروف والأحوال ومستوى الحال التي يعيشها المخطئ.. فيتساهل معه.. ويصفح عنه..وهذا هو الفرق الأساسي بين النوعين من الناس:
نوع.. يحسن تقدير الأمور فيحكم بطريقة ناضجة.. للعقل أكبر دور في الحكم..
ونوع.. لا يحسن تقدير الأمور.. فيحكم بطريقة فجة(غير ناضجة).. للرغبات دور أكبر في الحكم فيها..
وهكذا فالإنسان- في العموم – نوعان..
أو الإنسان يظهر في نوعين من الشخصية:
-شخصية متوازنة تحسن التصرف في المواقف بما يتلاءم معها إيجابيا، أي يحسن التكيف مع الظروف والمواقف بطريقة مفيدة..
-شخصية غير متوازنة(مضطربة) لا تحسن التصرف بشكل صحيح في الظروف والمواقف.. وبما يتلاءم معها..أي لا يحسن التكيف معها. وبالمناسبة فإن من بعض تعريفات الذكاء هو " حسن التكيف مع الظروف والمواقف". بمعنى أن الذي لا يحسن التكيف ليس فقط مضطربا في شخصيته، بل هو فاقد لجزء من ذكائه أيضا.
..........................................يتبع

User offline. Last seen 10 سنة 1 اسبوع ago. Offline
مشترك منذ تاريخ: 10/06/2006

شكرا أخ دلشير على هذا الموضوع الرائع