اقليدس

قليلون جداً من الخالدين استطاع أن يعيش طويلا مثلما عاش عالم الهندسة الإغريقي اقليدس. فمن بين هؤلاء الخالدين أناس اشتهروا وهم أحياء مثل نابليون الإسكندر الأكبر ومارين لوثر. بينما عاش اقليدس هذا مجهولا في حياته. ولكن بعد مماته أصبح أشهر من الجميع وأبعدهم أثرا أي أطولهم عمرا.

وعلي الرغم من شهرته هذه. فان القليل جدا عن حياته هو الذي نعرفه ونحن نعلم أنه عمل مدرسا في الإسكندرية حوالي سنة 300 ق.م. ولسنا علي يقين من التاريخ الذي ولد فيه أو مماته, ولا نعرف أيضا إن كان قد ولد في أفريقيا أو في أوربا. ولا في أية مدينة. وعلي الرغم من أنه قد ألف كتبا عديدة. فان كتابا واحدا له هو الذي حظي بكل الشهرة. أعني كتابه{مبادئ الهندسة}.

وأهمية هذا الكتاب لا ترجع لأي من النظريات التي قدمها أو شرحها. وأكثر هذه النظريات الهندسية كانت معروفة من قبل. كما أن الكثير من الأدلة علي البرهنة علي صحتها كانت معلومة أيضا. ولكن الإنجاز الكبير الذي يعزي إلي اقليدس هو تجميع هذه النظريات وعرضها وربطها والتدليل المقنع علي صحتها. وهذا الإنجاز يتضمن في المقام الأول أنه أضاف الكثير من البديهيات الهندسية. ثم انه نظم هذه النظريات الواحدة بعد الأخرى, حتى جاء النظام مترابطا ومنطقيا. . كما أنه زودها بالبراهين التي غابت عن الكثير ممن سبقوه.

وعلي الرغم من أن كتاب{المبادئ} هذا قد تضمن نظريات هندسية, فانه قد أضاف إليها بعض المعادلات الجبرية.

وكتاب{المبادئ} ظل أساسا للدراسات الهندسية أكثر من ألفي سنة. ولم يفلح كتاب واحد ألفه إنسان أن يعيش مثل هذا الزمن الطويل, وقد ألف اقليدس كتابه هذا باللغة الإغريقية. ولكن ظهرت له ترجمات في كل اللغات.

وأول طبعة لهذا الكتاب ظهرت في سنة 1482. أي بعد اختراع جوتنبرج للطباعة بثلاثين عاما. ومنذ ذلك الحين ظهرت لهذا الكتاب ألوف الطبعات في مئات اللغات.

وهذا الكتاب لأنه تدريب علمي علي التفكير المنطقي فقد كان أبعد أثرا من كتاب الفيلسوف أرسطو عن{المنطق} وكتاب{المبادئ} هو أحسن نموذج للتنظيم المنطقي للفكر. ولذلك فقد أفتتن به كل المفكرين العظماء منذ ذلك الوقت.

ومن العدل أن نقول إن كتاب اقليدس هذا كان عاملا قويا في إحياء العلوم الحديثة:لأن العلم ليس مجرد تجميع للمعلومات. إنما العلم يقوم علي الملاحظات الدقيقة, واستخرج النتائج العامة لها. وأعظم إنجازات العلم الحديث إنما تجئ من ترابط التجارب الإنسانية وتحليلها الدقيق بعد ذلك, والوصول إلي نتائج لها شكل النظريات وقوة البديهيات.

ولسنا علي يقين من الأسباب التي أدت إلي أن تكون نهضة العلوم في أوربا وليست في الصين. ولا يمكن أن يكون ذلك من نتائج الصدفة, فلابد من وجود أسباب قوية واضحة ومقنعة لأن يكون العلم قد ظهر وتطور إلي غير حد في أوربا. وليس في أماكن أخري من العالم. وأدي ذلك إلي ظهور عدد من النابهين من العلماء مثل العالم الإنجليزي نيوتن وألإيطالي جاليليو والبولندي كوبرنيكوس. ولابد أن تكون هناك أسباب قوية لظهور مثل هؤلاء النايهين, ومن بين هذه الأسباب تأثر أوربا بالفكر الإغريقي وبما قدمه الإغريقي من نظريات في الرياضيات.

ومن الجدير بالملاحظات أن الصين قد تقدمت علي أوربا في صناعة الأدوات والأجهزة. ولكنها لم يستطيع أن تبلغ ما بلغته أوربا في اكتشاف النظريات الرياضية والعلمية. فليس يوجد في الصين عالم هندسي يماثل اقليدس. . فمن المؤكد أن الصين قد كانت لها ممارسات هندسية, ولكن الصين لم تهتد قط إلي نظرية هندسية واحدة. أي كانت لها تجارب عملية ولم تكن لها فلسفة نظرية مجردة.

وقد كان أثر اقليدس في نيوتن عميقا, وهذا يبد وواضحا في كتاب نيوتن الذي عنوانه {المبادئ} والذي كتبه باللغة اللاتينية. وقد جاء هذا الكتاب ذا شكل هندسي تماما مثل كتاب اقليدس.

وكذلك فعل بعد ذلك رياضيون عظماء مثل الفيلسوفين الإنجليزيين: رسل وهوايتهد, والفيلسوف الهولندي اسبينوزا.

وفي المائة والخمسين عاما الماضية اهتدي علماء الرياضيات إلي الهندسة الإقليدية ليست هي النموذج الوحيد المنطقي. أو الصورة الصحيحة لكل الفكر الإنساني أو للعلاقات بين الأشياء أو بين الناس أو العلاقات بين الكون. . وإنما هناك علاقات أخري وصور تتنافي تماما مع الصور التي سيطرت علي العقل الإنساني منذ أيام اقليدس. .
فنظرية النسبية للعالم الرياضي ألبرت أينشتين قد نسفت هذه الصورة التقليدية ففي المجالات المغناطيسية للنجوم البعيدة والكواكب وحركاتها لا يمكن تطبيق هندسة اقليدس التي لا تصلح إلا مع الأشياء الجامدة المحدودة فقط. .

وعلي الرغم من النظريات العلمية الحديثة في الهندسة والرياضيات والفيزياء والفلك, فان هذا لا يقل من أهمية وخطورة ذلك العبقري الإغريقي الذي عاش ومات منذ أكثر من 22 قرنا !